مرايا – بقلم: د. مصطفى العماوي.
يدرك جلالة الملك أن العالم يشهد اليوم ثورة رقمية غير مسبوقة، تقودها تطبيقات الذكاء الصناعي التي باتت تُعيد رسم ملامح الحياة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية على حد سواء. ومع توسّع استخدام تطبيقات الذكاء الصناعي في مجالات الإبداع والابتكار، برزت إشكاليات قانونية معقدة تتعلق بحماية حقوق الملكية الفكرية، وبالأخص في الدول التي تسعى إلى مواكبة التطور التقني دون الإخلال بمنظومتها التشريعية، مثل المملكة الأردنية الهاشمية.
وينبغي علينا لفت الانتباه إلى ان جلالته يؤمن بأن الملكية الفكرية تقوم على حماية النتاج الإنساني في مجالات الأدب والفن والاختراع والعلامات التجارية والتصميم، وهي حقوق تضمن للمبدع ثمرة جهده الفكري، غير أن دخول الذكاء الصناعي إلى ساحة الإبداع أوجد تساؤلاً محورياً: من هو المبدع الحقيقي؟
فعندما تنتج الخوارزميات قصيدة شعرية أو لوحة فنية أو حتى اختراعاً علمياً، هل يُنسب هذا الإبداع إلى الإنسان المبرمج أم إلى النظام الذكي ذاته؟ هذا التساؤل ليس نظرياً فقط، بل له آثار قانونية عميقة تتعلق بتسجيل الحقوق واستغلالها إقتصاديا.
ولقد لفت جلالة الملك اثناء زيارته المجلس القضائي امس أن المشرّع الأردني يواجه اليوم تحديات متزايدة في سبيل تحديث التشريعات ذات الصلة بالملكية الفكرية لتستوعب المستجدات الرقمية، وعلى الرغم من أن قانون حماية حق المؤلف رقم 22 لسنة 1992 وتعديلاته، وقانون براءات الاختراع رقم 32 لسنة 1999 قد شكّلا إطاراً متقدماً في حينه، إلا أنهما لم يتطرقا بشكل مباشر إلى مسألة الإبداع الناتج عن الذكاء الصناعي.
وأشار جلالته الى أن الاتفاقيات الدولية التي انضم إليها الأردن، مثل اتفاقية “تريبس” واتفاقية “الويبو”، لم تُحدّد بعد موقفاً واضحاً من مسألة “المؤلف الآلي”، مما يترك فراغاً تشريعياً قد يُستغل سلباً من قبل بعض الجهات.
ونوه جلالته إلى أن التحدي المتمثل في صعوبة إثبات الأصالة والملكية عند استخدام أدوات الذكاء الصناعي في توليد المحتوى، خصوصاً في بيئة الإنترنت المفتوحة.
ثالثاً: مسؤولية الحكومه(الدولة) في حماية حقوق أفراد المجتمع ككل.
هذا وأكد جلالة الملك أن الحكومة الأردنية تتحمل مسؤولية مزدوجة في هذا المجال:
فمن جهة، يجب أن تضمن حماية حقوق المبدعين الأردنيين من الاستغلال أو النسخ غير المشروع في الفضاء الإلكتروني، ومن جهة أخرى، عليها أن تهيّئ بيئة قانونية محفزة للابتكار وتشجع الاستثمار في مجالات الذكاء الصناعي.
وقد أشار جلالته الى أن الحكومة اتخذت خطوات بناءة في هذا الإطار، أبرزها إنشاء وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، وإطلاق استراتيجية التحول الرقمي 2023–2027 والتي تتضمن بنوداً تتعلق بحماية البيانات والحقوق الرقمية، غير أن الحاجة لا تزال ملحة صياغة إطار تشريعي متكامل يُنظم العلاقة بين الإنسان والآلة في مجال الإبداع والاختراع، ويُحدّد آليات المسؤولية القانونية عن المنتجات الذكية.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى توجيهات جلالة الملك بأن تطوير نظام وطني لحماية الملكية الفكرية في عصر الذكاء الصناعي يتطلّب مقاربة شاملة تقوم على ثلاث ركائز رئيسية:
اولها: التشريع وذلك بإصدار تعديلات حديثة على قوانين الملكية الفكرية تُعرّف بوضوح مصطلحات مثل “الإبداع الناتج عن الذكاء الصناعي” و”المؤلف الآلي” و”البيانات التدريبية”، مع تحديد حقوق والتزامات كل طرف.
وثانيهما: الرقابة والتنفيذ والذي يتطلب إنشاء وحدات متخصصة ضمن وزارة الصناعة والتجارة و الاقتصاد الرقمي لمتابعة قضايا الانتهاك الإلكتروني، واستخدام تقنيات التتبع الرقمي لحماية المحتوى الأردني.
وثالثهما: التوعية والتثقيف والذي يتطلب نشر ثقافة احترام حقوق الملكية الفكرية بين الشباب والمبرمجين والمبدعين، وتضمين المناهج الجامعية مواد تتناول أخلاقيات الذكاء الصناعي والابتكار والإبداع.
ولا يمكن الحديث عن حماية الملكية الفكرية دون التطرق إلى البعد الأخلاقي. فالذكاء الصناعي، رغم قدرته الفائقة على الابتكار، يظل أداة من صنع الإنسان، ولا يجوز أن يُستخدم في تقويض القيم أو الاستيلاء على جهود الآخرين. وهنا يبرز الدور المهم للمؤسسات الإعلامية والثقافية، وعلى رأسها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ، في تعزيز وعي المجتمع بهذه القضايا وتشجيع النقاش العام حولها.
وبقي استكمالاً لموضوعنا هذا الإشارة إلى إيمان جلالته المطلق أن الذكاء الصناعي يمثل فرصة تاريخية للأردن لتثبيت مكانته كمركز إقليمي للابتكار الرقمي، شريطة أن يتم تسخير هذه التقنية في إطار قانوني متين يوازن بين حرية الإبداع وحماية الحقوق.
ولعل الخطوة الأهم تكمن في توجيهات جلالة الملك لتشكيل لجنة وطنية لتحديث التشريعات الوطنية بما ينسجم مع التطورات التقنية، وإطلاق حوار وطني شامل يضم القانونيين والمبرمجين والمبدعين لوضع معايير أردنية واضحة للملكية الفكرية في العصر الرقمي.
إن جلالة الملك يتابع أولا بأول أدق التفاصيل ويدرك أن الحقوق الفكرية ليست مجرد نصوص قانونية، بل هي حماية لروح الإبداع الأردني وضمان لاستمراريته في وجه التحديات التكنولوجية المتسارعة.