مرايا – خاص
في أحد مقاهي عمان الراقية جلس مستثمر عربي يتحدث عن استثماراته العقارية في دبي. كان يروي بحماسة كيف ارتفعت قيمة شقته بنسبة ثلاثين في المئة خلال ست سنوات فقط، وكيف أن الإيجارات التي حصل عليها وفرت له حياة كريمة في مدينة تُعد من بين الأغلى عالميًا. لم يكن في حديثه أي استعراض للنجاح بقدر ما كان فيه شيء من الحسرة وهو يقارن ذلك بما رآه خلال زيارته الأخيرة إلى الأردن. قال بوضوح وهو يضع فنجان قهوته جانبًا: “فكرت في الاستثمار هنا، لكن الأرقام لا تشجع، القيمة تتآكل بدل أن تزيد”.
هذه ليست حالة فردية عابرة، بل انعكاس لرواية تتكرر على ألسنة مستثمرين محليين وأجانب كلما ذُكر العقار في الأردن. فالسوق، الذي اعتُبر لعقود طويلة ملاذًا آمنًا و”كنزًا لا يخسر”، بات اليوم محاصرًا بالركود، تُوصف حركته بأنها فقدان متواصل للقيمة، في وقت تزدهر فيه أسواق إقليمية مجاورة مثل دبي والرياض، حيث يحقق المستثمرون عوائد سريعة ومرتفعة. هذا التباين يثير تساؤلات عميقة: لماذا يفقد العقار في الأردن جاذبيته؟ وماذا ينقصه ليصبح بيئة استثمارية واعدة كما في بقية العواصم؟
الجواب ليس بسيطًا، لأن المشكلة لا تتعلق بقطاع العقار وحده بل ببنية الاقتصاد برمته. فالاقتصاد الأردني يعاني من ضعف النمو، والقوة الشرائية محدودة، والسيولة النقدية شحيحة في أيدي الأفراد. كل ذلك يجعل الطلب على الشقق هشًا، قائمًا على الحاجة أكثر مما هو قائم على الاستثمار. في المقابل، ترتفع أسعار الأراضي في عمان إلى مستويات غير منطقية، وغالبًا ما تُحدد عبر تقديرات عشوائية أو مضاربات لا تراعي أسس العرض والطلب العالمية. والنتيجة أن الشقق تُباع بأسعار لا تعكس قيمتها الحقيقية، وتظل عالقة في السوق لسنوات طويلة من دون مشترٍ أو مستأجر.
ومع ذلك، فإن التجربة أثبتت أن السوق قادر على تحقيق قفزات نوعية حين تتوافر الرؤية والإرادة. ففي لحظات معينة، شهدت عمان مشاريع تطوير متكاملة ساهمت في رفع قيمة العقارات المحيطة بها، وحققت عوائد إيجارية منافسة لما هو موجود في أسواق إقليمية نشطة. لكن هذه النجاحات بقيت استثناءات محدودة لم تتكرر، لأن العوامل التي صنعتها لم تتحول إلى قاعدة عامة، سواء بسبب ضعف القدرة الشرائية أو غياب شراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص.
النزول إلى تفاصيل الحياة اليومية في الأحياء السكنية يكشف حجم الأزمة بوضوح. شوارع ضيقة بالكاد تتسع لسيارتين، أبنية مخالفة لارتدادات التنظيم وعدد الطوابق، محال تجارية غير مرخصة تعمل وسط الأحياء السكنية، نقص مزمن في مواقف السيارات، ومدارس حكومية لم تتغير منذ التسعينيات رغم تضاعف عدد السكان عشر مرات. في مثل هذه الظروف تصبح أسعار الشقق، مهما ارتفعت، مجرد أرقام على الورق لا تتناسب مع الواقع، إذ تغيب البنية التحتية والخدمات الأساسية التي تمنح العقار قيمته الحقيقية.
وإذا كانت العشوائية في التنظيم العمراني أحد أوجه الأزمة، فإن القوانين تزيد الوضع تعقيدًا. قانون المالكين والمستأجرين يُنتقد على نطاق واسع لأنه يميل إلى حماية المستأجر على حساب المالك، إلى درجة تجعل بعض المستثمرين يصفونه بأنه “يمنح المستأجر ملكية فعلية للعقار”. هذا التوازن المختل يثني الكثير من المستثمرين عن دخول السوق، خاصة إذا كانوا من الخارج ويبحثون عن بيئة واضحة ومستقرة. ومع بطء المحاكم وتعقيدات التقاضي وارتفاع الضرائب وتشابك التشريعات، تصبح بيئة الاستثمار أشبه بمتاهة بيروقراطية يصعب على المستثمر اجتيازها.
التجارب الفردية تضيف بعدًا إنسانيًا للقصة. أحد المستثمرين المحليين حاول أن يحول عقارًا قديمًا إلى شقق طلابية، لكنه وجد نفسه محاصرًا بعقبات تبدأ من صعوبة الحصول على التصاريح، مرورًا بارتفاع تكاليف التشطيبات التي لم تضف قيمة حقيقية إلى العقار، وصولًا إلى ضرائب غامضة وتشريعات متشعبة. وبعد حسابات دقيقة اكتشف أن العائد على استثماره لن يظهر إلا بعد خمسة عشر عامًا على الأقل، وهو زمن طويل في سوق متقلب، ناهيك عن المخاطر السياسية والإقليمية التي قد تطيح بأي خطة طويلة الأمد. في النهاية، فضل أن يوجّه أمواله إلى مجالات أخرى أقل تعقيدًا، تاركًا العقار خلفه رغم ما كان يراه سابقًا من أمان.
المفارقة أن أسعار الشقق في عمان مرتفعة جدًا مقارنة بمستوى دخل الأفراد. فشقة متوسطة المساحة في أحد أحياء عمان الغربية قد يصل سعرها إلى مئتي ألف دينار، بينما راتب الموظف لا يكفي لتغطية جزء بسيط من القسط الشهري في حال التمويل البنكي. وفي الوقت نفسه، تبدو هذه الأسعار متواضعة إذا ما قورنت بأسواق الخليج، حيث قد يصل سعر شقة مماثلة إلى مليون دينار أو أكثر. لكن الفارق أن الرواتب في الخليج أعلى بكثير، والشركات هناك تقدم بدلات سكن سخية، والاقتصاد مزدهر بما يسمح بتحمل هذه التكاليف. أما في الأردن، فالفجوة بين الأسعار والدخل تخلق معادلة مستحيلة: شقق غالية بلا مشترين قادرين، وسوق ممتلئ بالعرض لكن بلا طلب فعّال.
ولأن السوق محكوم بسلوك الأفراد أكثر من هيمنة الشركات الكبرى، فإن التسعير يخضع لمنطق “التكاليف الغارقة”. يشتري مالك شقة بسعر مرتفع، على أمل أن يعيد بيعها بسعر أعلى بعد بضع سنوات، ثم يكتشف أن السوق راكد. ومع ذلك يرفض خفض السعر، لأنه يعتبر ذلك خسارة شخصية. النتيجة أن الشقة تبقى معروضة لسنوات طويلة بلا بيع ولا تأجير، ومع كل شقة مجمدة تتجمد معها حركة السوق بأكملها.
أمام هذا الواقع، تتعدد الطروحات للخروج من الأزمة. هناك من يدعو إلى إنشاء بورصة عقارية تعيد الشفافية وتمنع المضاربات غير الواقعية، وهناك من يرى أن الحل يبدأ من الدولة عبر شراكة فعلية مع القطاع الخاص تتيح قيام شركات تطوير كبرى قادرة على تنظيم السوق وبناء مشاريع متكاملة تعطي قيمة مضافة حقيقية. آخرون يقترحون تحديث القوانين لتصبح عادلة ومتوازنة بين المالك والمستأجر، واعتماد معايير تقييم عقاري عالمية تعكس القيمة الحقيقية بعيدًا عن التقديرات المزاجية.
لكن أيًا من هذه المقترحات لا يمكن أن ينجح ما لم يتغير السياق الاقتصادي الأشمل. فالعقار ليس قطاعًا معزولًا، بل مرآة مباشرة للاقتصاد الوطني. فإذا ظل النمو ضعيفًا والدخل محدودًا والسيولة شحيحة، فلن يتمكن السوق العقاري من النهوض مهما جرى من إصلاحات جزئية. الإصلاح الحقيقي يتطلب رؤية شاملة تشمل الاقتصاد والتخطيط الحضري والتشريعات في آن واحد.
ورغم كل التحديات، يبقى الأمل قائمًا. فقد أثبتت بعض التجارب أن السوق الأردني قادر على التغيير إذا توافرت الرؤية والإرادة. التجربة التي شهدتها عمان في تطوير بعض مناطقها دليل على ذلك، فهي أظهرت أن المستثمرين مستعدون لدفع أسعار مرتفعة إذا ارتبطت بخدمات وبنية تحتية جيدة وفرص استثمارية واضحة. غير أن مثل هذه النجاحات تبقى هشة إن لم تتحول إلى سياسة عامة، وإن لم تُبنى على خطط طويلة الأمد بدلاً من المبادرات المتقطعة.
في النهاية، يظل السؤال معلقًا: هل يستطيع الأردن أن يعيد صياغة سوقه العقاري ليصبح بيئة جاذبة لا طاردة؟ الإجابة مرهونة بمدى استعداد الدولة والقطاع الخاص للخروج من دائرة السياسات التقليدية، والانطلاق نحو إصلاحات جذرية تعيد الثقة إلى المستثمرين المحليين والأجانب. حتى ذلك الحين، ستبقى صورة المستثمر الجالس في مقهى عمان، وهو يروي بحسرة كيف تضاعفت قيمة عقاره في دبي بينما تتآكل العقارات هنا، رمزًا لسوق يبحث عن هويته المفقودة، عالقًا بين الأمل والخيبة.