مرايا – بقلم: د. عادل محمد الوهادنة

 

مقدمة عامة:

القطاع الصحي الأردني يقف اليوم عند مفترق طرق: بين صمودٍ قد يفخر به الوطن، وبين تشرذمٍ إداري يؤدي تدريجيًا إلى تقويض كفاءة النظام بأكمله. بعد أربعين عامًا من العمل في خِدمة هذا القطاع، أصرّح بما أراه بوضوح: جسمنا الطبي قوي، صامد، قادر، لكنه مُعرَّضٌ لأذىٍ مؤسسي إذا لم تُفعّل القرارات الإصلاحية العادلة ضمن منظومة داعمة تضمن التنفيذ والمتابعة.

الواقع أن المشكلة ليست دائماً في المال فالموارد متاحة بدرجة كبيرة بل في كيفية توجيهها، وفي العدالة الإدارية، وفي قوة الإدارة التنفيذية القادرة على حماية القرار الصحي من التردد أو التأجيل.

ملاحظة مرجعية سريعة: مؤشرات القوى العاملة الصحية تُظهر أن الأردن يملك كثافة طبية أعلى من كثير من جيرانه، لكن فجوات الأداء والإمكانات الرقميّة والتنظيمية ما زالت واضحة؛ ولا يمكن سدّ هذه الفجوات بالمال وحده، بل بالترتيب الإداري الصحيح والدعم الفعلي للقرار الصحي الجريء.

انظر جدول «1»

(لمراجعة مؤشرات عامة عن القوى العاملة الصحية في الأردن راجع إحصاءات منظمة الصحة العالمية وبرامجها الخاصة بملف الأردن.)

انظر جدول «2»

  النقاط الرئيسية:

1. ازدواجية القرار والإصلاح المؤجل:

يعيش القطاع الصحي الأردني ازدواجية القرار بين النية الإصلاحية والعجز التنفيذي، ما يجعل أي مبادرة تموت في مهدها قبل أن ترى التطبيق العملي. هذا الازدواج انعكس على جميع مستويات الأداء، من العدالة الوظيفية إلى كفاءة الإدارة، حتى أصبح النظام الصحي يعمل بنصف طاقته بين من يريد ولا يستطيع، ومن يستطيع ولا يُمكّن.

المطلوب أن تتحول النية الإصلاحية إلى آليات تنفيذ واضحة ومدعومة من القيادة الصحية لضمان الاستمرارية والنتائج.

2. غياب العدالة الوظيفية وتآكل الحافز.

العدالة الوظيفية غائبة؛ فالمجتهد والمتقاعس يتقاضيان المكافأة ذاتها، مما ولّد ثقافة «اللامسؤولية الجماعية» التي تقتل الحافز. الموظفون الأكفاء يشعرون بأنهم غرباء في مؤسساتهم، لأن نظام التحفيز لا يميز الجهد ولا يكافئ الإبداع.

العدالة الإدارية الحقيقية يجب أن تكون أولوية لدى متخذي القرار لضمان شعور العاملين بالإنصاف واستعادة الثقة داخل المؤسسات الصحية.

3. هيمنة الصورة الإعلامية على المضمون العملي.

تركيز السياسات الصحية على الصورة الإعلامية أكثر من المضمون العملي أدى إلى فجوة بين ما يُعلن وما يُنجز فعلاً. الإعلام يمكن أن يقوّي الثقة إذا كان الواقع مرآةً للبيان، لكن لا بد من الانتقال من مرحلة الوعود إلى مرحلة المتابعة الدقيقة لما أُعلن لضمان المصداقية العامة.

4. ضعف منظومة المتابعة والمساءلة.

ضعف منظومة المتابعة والمساءلة جعل الفشل الإداري مقبولاً والانضباط استثناءً لا قاعدة. استمرار تقييم الأداء بلغة بيروقراطية جامدة جعل الوزارة تتعامل مع البشر كأرقام لا كقدرات.

تطوير منظومة المتابعة يجب أن يكون نهجًا إداريًا دائمًا، لا إجراءً وقتيًا، حتى ينعكس على أداء العاملين وكفاءة الخدمة.

5. الاعتماد على الاعتمادية الخارجية كغطاء للجودة.

الاعتماد المفرط على الاعتمادية الخارجية كمؤشر جودة يخفي وراءه واقعاً يومياً غير منضبط، إذ تبقى الممارسات الإكلينيكية والإدارية في بعض المواقع بعيدة عن الرقابة الحقيقية.

الاعتماد الحقيقي يبدأ من الداخل، عبر تقييم وطني مستمر وشفاف للنتائج والأداء.

6. التشرذم المؤسسي وفوضى التحويلات.

التشرذم في الأداء بين المؤسسات الصحية المختلفة أوجد فوضى في التحويلات وإهداراً في الموارد. التفاوت بين المستشفيات المدنية والعسكرية والجامعية في القدرات بات حقيقياً، مما يجعل اعتماد نموذج تصنيف وطني واضح (Levels 1–10) ضرورة ملحّة.

وأي ضمّ أو دمج مؤسسي يجب أن يتم وفق دراسة فنية مسبقة تحفظ الكفاءة ولا تخلق عبئاً إضافياً على النظام.

7. إدارة الموارد البشرية والبنى التحتية: ركيزة الاستدامة.

إدارة الموارد البشرية والبنى التحتية يجب أن تقوم على مبدأ الاستدامة والجاهزية؛ فصيانة القاعدة اليومية للمنظومة ليست رفاهية بل واجب.

الاستدامة تتحقق حين توفَّر البرامج التدريبية الدورية وعمليات التقييم الموضوعي التي تضمن استمرار الكفاءة دون الحاجة لإجراءات طارئة متكررة.

8. التدريب الشكلي والتنمية المهنية الغائبة.

التدريب الذي يفترض أن يكون أداة تطوير، تحوّل إلى غاية شكلية يُمنح فيها التدريب لمن لا يحتاج ويُحرم منه من يحتاج. يجب أن يُعاد تصميم برامج التدريب لتكون مرتبطة بنتائج الأداء الفعلية لا بالمظاهر الإدارية.

9. ضعف القرار المؤسسي وغياب الحزم التنفيذي.

قوة القرار أصبحت عملة نادرة؛ والوزارة تحتاج إلى أن تتخذ قرارات صعبة وتجد من يدعمها.

القرار الإداري الجريء يتطلب منظومة تشريعية وتنظيمية تحمي متخذه من الضغوط وتكفل استمرارية التنفيذ دون تأجيل أو تردد.

10. انعدام الرؤية التعاونية بين القطاعات الصحية.

غياب الرؤية التعاونية بين القطاعات الصحية المدنية والعسكرية والجامعية أضعف الكفاءة الوطنية وحرم المواطن من أفضل استثمار ممكن في الخبرات والإمكانات. التكامل بين القطاعات يجب أن يكون سياسة وطنية ثابتة، لا مبادرات مؤقتة.

11. غياب استراتيجية التوازن بين مصلحة المريض وحقوق الموظف.

عدم وجود رؤية واضحة للتوازن بين مصلحة المريض وحقوق العاملين أدى إلى احتقان داخلي ينعكس سلباً على جودة الخدمة المقدمة.الحلول يجب أن تراعي الجانبين معاً عبر ميثاق وطني للممارسات المهنية الصحية.

12. نظرة مثالية غير واقعية في تقييم الأخطاء.

اللجان الطبية والرقابية ما زالت تنظر إلى الأخطاء بمنطق مثالي غير قابل للتطبيق، فتفقد العدالة معناها العملي وتتحول إلى أداة خوف بدلاً من أداة تصحيح. التقييم يجب أن يكون إصلاحياً تعليمياً لا عقابياً فقط.

13. النظام الصحي الشامل: مشروع جيد بتوقيت يحتاج مراجعة.

النظام الصحي الشامل مشروع ممتاز في جوهره، لكنه لن يُطبق بفعالية ما لم يُعالج أولاً سوء استخدام البنى وتداخل الصلاحيات.النجاح في التطبيق يتطلب تهيئة البنية الإدارية والكوادر قبل التوسع في الخدمات.

14. القدرة على العمل في أقسى الظروف: رأس مال غير مستثمر.

أثبت النظام الصحي الأردني قدرته على العمل في أقسى الظروف.

هذه القدرة يجب أن تتحول إلى خطة وطنية لتأهيل الكوادر وتكريمها وحمايتها من الإنهاك الإداري.

15. الإصلاح الحقيقي يبدأ من التفاصيل الصغيرة.

النجاح في القطاع الصحي لن يُقاس بعدد الشعارات أو المؤتمرات، بل بقدرة النظام على تحويل الإرادة إلى إنجاز والمبادرة إلى فعل.

الإصلاح الحقيقي يُبنى بالتراكم المستمر عبر خطوات عملية قابلة للقياس، تبدأ من الميدان لا من الخطابات.

 انظر جدول «3+4»

 تحليل مُفصّل:

1. التشرذم في الأداء: التشخيص والنتيجة.

هناك تباين واضح: مستشفيات لديها إمكانات 1–3 (خدمات أساسية)، وبعضها 8–10 (خدمات متقدمة وتخصصية). الخطأ الفادح أن بعض السياسات تُعامل جميع المستشفيات كأنها من نفس الفئة. هذا نهج سيقضي على الكفاءة.

المطلوب: إعادة تصنيف فنية دقيقة وشاملة لجميع المستشفيات على أساس القدرات الفعلية، وليس القرارات الإدارية العامة، لضمان العدالة في توزيع الموارد وتحقيق التكامل الوطني في الخدمة.

تجارب الدمج العشوائي السابقة أظهرت نتائج سلبية وتعطيلًا لمسارات الإحالة، لذلك ينبغي أن تُبنى أي عملية توحيد أو إعادة هيكلة على دراسات فنية مسبقة تضمن الكفاءة والاستدامة.

2. العدالة الإدارية: عدالة ليست شعارًا بل تطبيق.

الإدارة التي تُساوي بين من يعمل ومن لا يعمل أخطأت في فهم أساس الإدارة.

يجب أن يكون هناك معيار شفاف للأداء وآليات مراجعة مستقلة ومنهجية واضحة للمكافأة أو المساءلة.

إعادة هيكلة أنظمة التقييم ضرورة لضمان أن الجهد يقابل التقدير وأن الإهمال يقابل التوجيه أو التدريب لا العقاب الفوري.

المكافأة الحقيقية: رفع الرواتب، الحوافز المبنية على الأداء، وفرص الترقية الحقيقية، وليس توزيع الحصص الشكلية أو الإجازات الرمزية.

الإنصاف في بيئة العمل يعيد الثقة ويحفّز الإبداع.

3. قوة القرار: لماذا الوزير وحده لا يكفي؟

الوزير قد يتخذ قرارًا شجاعًا لكن ماذا إن لم يجد دعمًا؟

الإصلاح الحقيقي يحتاج منظومة مؤسسية تدعم القرار من أعلى الهرم إلى أدناه، وتمنع تعطيله بالبيروقراطية أو تضارب الصلاحيات.

إن لم يكن هناك غطاء إداري وتشريعي قوي، فإن القرار يتراجع أو يُلتف عليه.

القرار الإداري يجب أن يكون مؤسسيًا لا شخصيًا، محميًّا بالقانون، ويُشرح للمواطنين بوضوح حتى يفهموا منطق العدالة في تطبيقه.

4. إدارة الموارد البشرية والبنى التحتية: حجر الأساس.

الجسم الطبي الأردني أثبت قدرته على العمل في مناطق النزاع فهل نستثمر ذلك؟.

الإدارة الفعالة تتطلب:

* جداول تدريب سنوية وإلزامية.

* مراكز تأهيل وإعادة توزيع مؤقتة للمقصرين بدلًا من الإقصاء.

* اختبارات أداء عملية ومؤشرات قياس أداء دقيقة.

* صيانة دورية للبنى التحتية ومُحاكاة طوارئ (Stress Tests) للموظفين والمنشآت.

من يلتزم بذلك يبني منظومة قوية مستدامة، ومن يهمله يكرر الفشل التنظيمي.

5. لا نسخ أعمى: البدء من القاعدة.

العمل الفعلي يبدأ من الفرق الطبية في الميدان، لا من المكاتب العليا.

حل المسائل اليومية: قوائم الانتظار، طرق تحويل الحالات، توحيد بروتوكولات الفحص، هو ما يصنع الثقة.

المشروعات الكبرى كالنظام الصحي الشامل لا يمكن أن تنجح ما لم تُبنَ على قاعدة إصلاحية مكتملة في الميدان.

6. الإعلام: صالح أم ضار؟.

الإعلام أداة فعالة إذا استخدم بحكمة. الإعلان عن إنجازات قبل قياس أثرها يضر بالمصداقية.

منهج الإصلاح الإعلامي في الصحة يجب أن يقوم على الشفافية بعد التقييم، لا على الترويج قبل التطبيق.

قبل الإعلان، يجب تقييم أي مبادرة لثلاثة أشهر على الأقل لضمان أن نتائجها واقعية وقابلة للقياس.

7. الصمود المهني: فخر لا مبرّر للرضا.

وجودنا في الميدان، خاصة في الخدمات الطبية الملكية ومناطق النزاع، هو برهان على قدرة الجسم الطبي.

لكن هذا الفخر لا يجب أن يكون مبررًا للرضا عن الأداء الإداري.

يجب تحويل الصمود إلى سياسات مؤسسية تحمي الكوادر وتدعمها وتستثمرها في التعليم والتطوير المستمر.

8. النظام الصحي الشامل: متى يكون قابلاً للتطبيق؟.

النظام الصحي الشامل يحتاج إلى تصنيف واضح للمستشفيات، شبكة إحالة فعالة، سجل إلكتروني موحد، آليات تمويل شفافة، وتدريب ممنهج.

إذا لم تتحقق هذه المقدمات فلن يكون النظام سوى مشروع مؤجل آخر.

معدلات اعتماد السجلات الطبية الإلكترونية في الأردن ما زالت منخفضة نسبيًا، ما يجعل التنفيذ الكامل تحديًا يتطلب استثمارًا تنظيميًا وتقنيًا واضحًا.

  أمثلة تطبيقية ومشاهدات ميدانية

 * بعض الوزراء لجأوا للتواصل المباشر مع المواطن، وهو توجه محمود لكن التسريع في قرارات الفحوصات يحتاج مقاييس واضحة. التسرع قد يحوّل الموارد من حالات حرجة إلى استخدام غير ضروري.

* بعض الموظفين لا يؤدون مهامهم بسبب البيروقراطية أو غياب المحاسبة. الحل ليس العقاب بل إعادة بناء بيئة عمل عادلة تربط الجهد بالمكافأة.

* في بعض المستشفيات تظهر مجموعات داخلية قادرة على تعطيل القرار الإداري. يجب تمكين القيادة الإدارية من تطبيق القانون بعدالة تامة دون محاباة.

* مثال الرنين المغناطيسي: الإسراع في الطلبات دون مبرر علمي يرهق النظام ويضر المريض، لذا يجب التوعية بحقوق المواطن وحدود المطالبة المنطقية طبياً.

  خطة تنفيذية موجزة قابلة للتطبيق

 1. إجراء تقييم وطني فني خلال 6 أسابيع لتصنيف المستشفيات وفق مستويات خدمات (1–10).

2. إطلاق سياسة عدالة الأداء: قِوائم معايير أداء لكل وظيفة، مراجعة ربع سنوية، وبرنامج تأهيل إلزامي للمقصرين.

3. مركز إحالة مركزي وقابل للقياس للفحوصات الحرجة (مثل: جدولة MRI موحّدة لتقليل التكرار ولاختصار زمن الانتظار للأكثر حاجة).

4. خطة حوافز مُعادة الصياغة: حوافز مالية دورية، تحسين رواتب للأداء العالي، منح تدريب داخلي وخارجي.

5. خطة رقمية مرحلية (3 سنوات) لرفع اعتماد السجلات الإلكترونية وربط المستشفيات الرئيسية.

6. آلية إعلامية شفافة: إعلان النتائج بعد 3 أشهر من أي مبادرة، ولوائح متابعة تظهر القياس الحقيقي للإنجاز.

7. آلية محاسبة مستقلّة: لجنة مراجعة أداء تُعيّن مستقلين من الأوساط الأكاديمية والمهنية.

KPI النقاط العامة التفريقيه ((الاردن والمحيط))

 انظر جدول «5+6»

 خاتمة

 القطاع الصحي الأردني يملك كل مقومات النجاح: جسم طبي مجيد، كوادر متفانية، وبنى تتيح الانطلاقة. ما ينقصنا هو القرار الصارم المدعوم، والعدالة الإدارية التطبيقية، وعدم الخضوع لتقليد أعمى لتجارب لا تتناسب مع خصوصيتنا. إن استمررنا في مهادنة الأمور أو التغاضي عن الاختلالات الإدارية، فسيدفع الوطن ثمنًا باهظًا ثمنه ليس مقترنًا بمواردٍ إضافية فحسب، بل بثقة المواطنين وصمود المنظومة.

أطالب: بقرارٍ واضحٍ وصريح، دعم الوزير بشكل كامل عندما يقرر المساءلة، وتعريف المواطن بحقوقه وواجباته بوضوح، وتصنيف المستشفيات وفق قدراتها الحقيقية، ثم تمويل ودعم التدريب والصيانة والتأهيل. هذا هو الطريق للانتقال من لونٍ أصفر إلى لونٍ أخضر في مؤشرات الأداء. ليس لدينا رفاهية التأجيل أو التجريب العشوائي. الوطن يحتاج الحقيقة الآن، والقرار الآن، والعدالة الآن.