مرايا – بقلم: م. سعيد بهاء المصري
منذ عام 2018، تغيّر المسار الاقتصادي العالمي من الانفتاح الواسع إلى اتجاهات أكثر تشددًا قائمة على فرض الرسوم الجمركية والدعم المباشر للصناعات. هذا التحول خلق ضبابية في الأسواق وأدى إلى إبطاء حركة التجارة الدولية، ما انعكس على النمو الاقتصادي ومستويات المعيشة، خاصة في الدول المستوردة أو ذات الدخول المحدودة. الطريق الأكثر واقعية هو التوازن: حماية مدروسة في بعض القطاعات الحساسة، مع الحفاظ على الانفتاح في مجالات التكنولوجيا والطاقة الخضراء.
أولاً: الحمائية وتأثيرها المباشر على التجارة والاقتصاد
– تراجع التجارة العالمية:
فرض الرسوم الجمركية وما يصاحبها من حالة عدم استقرار في السياسات الاقتصادية أدى مباشرة إلى إضعاف حركة التجارة. منظمة التجارة العالمية خفضت توقعاتها لنمو التجارة لعام 2025 إلى انكماش بنسبة -0.2%، مع تراجع النمو الاقتصادي العالمي إلى 2.2% فقط.
– المستهلك هو المتضرر الأكبر:
في النهاية يدفع المواطن الثمن. الدراسات أظهرت أن الرسوم الأميركية بين 2018 و2019 انعكست كليًا على أسعار السلع المستوردة، ما زاد الأعباء على الأسر والشركات. وقدرت لجنة التجارة الدولية الأميركية أن كل زيادة قدرها 1% في الرسوم تعني زيادة مماثلة في أسعار الواردات.
– انتشار السياسات الحمائية عالميًا:
لم تقتصر السياسات الحمائية على الولايات المتحدة. ففي 2024 فرضت واشنطن رسومًا جديدة على السيارات الكهربائية والبطاريات القادمة من الصين وصلت إلى 100%. الاتحاد الأوروبي بدوره فرض رسومًا تعويضية بلغت 35% على السيارات الكهربائية الصينية، وبدأ تنفيذ آلية تعديل الكربون على الحدود (CBAM) التي تدخل حيز التنفيذ الكامل عام 2026.
– تكاليف طويلة الأمد:
صندوق النقد الدولي حذر من أن استمرار الانقسام الاقتصادي والتكنولوجي بين الكتل الكبرى قد يؤدي إلى خسارة تصل إلى 7% من الناتج العالمي على المدى الطويل. هذه الحواجز تعني أيضًا ارتفاع الكلفة وضعف القدرة التنافسية وارتفاع معدلات التضخم.
– أثر سلبي على الاستثمارات:
بدلاً من جذب استثمارات جديدة، ساهمت الحمائية في إعادة توزيعها فقط. الاستثمار الأجنبي المباشر تراجع بنسبة 11% في 2024، بينما انتقلت بعض الاستثمارات من الصين إلى فيتنام والمكسيك وماليزيا، وهو تحول في المواقع لا أكثر.
ثانياً: التكاليف البعيدة المدى للحمائية
رغم أن الحمائية تبدو أحيانًا كوسيلة سريعة لحماية الوظائف أو دعم الصناعات المحلية، إلا أن لها تكاليف خفية:
– تكاليف مباشرة: زيادة أسعار السلع الأساسية والمواد الأولية، مع ردود انتقامية من شركاء التجارة تحدّ من فرص التصدير.
– تكاليف طويلة الأمد: تقلص الأسواق وتراجع المنافسة يؤديان إلى ارتفاع الكلفة وضعف الابتكار.
– عبء على المستهلك: عمليًا تصبح الحمائية مثل ضريبة غير معلنة، يتحملها المستهلك العادي من خلال أسعار أعلى.
ثالثاً: ملامح المستقبل الاقتصادي للفترة 2025–2030
1. سيناريو إدارة المخاطر (السيناريو الأساسي):
يتضمن فرض رسوم على قطاعات محددة كالتكنولوجيا المتقدمة، مع استمرار بعض الانفتاح. هذا السيناريو يعني نمو عالمي بطيء بين 2% و2.5%، مع بقاء التضخم أعلى من مستويات ما قبل 2018.
2. سيناريو التشرذم (السيناريو السلبي):
في حال اتساع دائرة الرسوم الأميركية والردود الانتقامية، سيشهد الاقتصاد العالمي انكماشًا أعمق، مع خسائر طويلة الأمد تصل إلى 7% من الناتج العالمي، خصوصًا للدول الصغيرة والفقيرة.
رابعاً: البديل البراغماتي عبر التكتلات الإقليمية
التجربة الأميركية أثبتت محدودية فاعلية الحمائية في معالجة الاختلالات الاقتصادية، بل أضافت أعباءً جديدة على المستهلك وزادت عجز الموازنة. لذلك فإن الخروج من هذه الشرنقة يتطلب رؤية أوسع تقوم على التعاون بين التكتلات الإقليمية.
– انفتاح مدروس: الإبقاء على ضوابط محدودة للأمن الاقتصادي، مع فتح أسواق جديدة للسلع الخضراء والخدمات الرقمية، وتنسيق المعايير البيئية لمنع تحولها إلى أدوات حمائية.
– خطوات عملية: تحديد القطاعات الحساسة فقط، وضع قواعد مشتركة للانتقال الأخضر، دعم الإنتاجية بدلًا من الاكتفاء بالرسوم، وتخفيف الأثر على الفئات المتضررة.
– تعاون إقليمي واسع: إنشاء شراكات عملية بين الاتحاد الأوروبي، وبلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية، ودول الآسيان في جنوب شرق آسيا. مثل هذا التعاون يمكن أن يخلق جسورًا اقتصادية بين أوروبا وآسيا ويمهّد للتوسع إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية لاحقًا.
البديل البراغماتي ليس مواجهة للحمائية بالانعزال، بل صياغة مسار للتنمية المشتركة يخفف من حالة عدم اليقين ويمنح الشعوب فرصًا أفضل لتجنب الفقر.
.