مرايا – بقلم مدير الإعلام العسكري العميد الركن مصطفى الحياري
يُشكل الشباب حجر الزاوية في بناء الدولة، فهم يمثلون المخزون البشري للقوى الوطنية الفاعلة، ورافعة لمسيرة التنمية وسياجاً للوطن في وجه التهديدات، مما يتطلب إعادة بناء الروابط والثقة بين الشباب والدولة كأولوية تسهم في استنهاض الطاقات وتعزيز قيم الولاء والانتماء، فالشباب وقد غرقوا في عوالم رقمية عابرة للحدود، هم بحاجة إلى مساحة تربطهم مجددًا بجذورهم، وتُشعرهم بأن الوطن ليس فكرة مؤجلة بل ممارسة يومية ومسؤولية جماعية، لتكتسب خدمة العلم معناها الأعمق، إذ لا تُختزل في بعدها العسكري فحسب، بل هي وسيلة لصقل الهوية، وتعزيز سلوك الالتزام والانضباط وتحمل المسؤولية.
وهنا تبرز خدمة العلم كمنصة قادرة على دمج الفرد في مشروع الدولة، وتُخرجه من دائرة الفردية والانتظار إلى فضاء الفعل والتأثير والمشاركة، هذا الفضاء لا يتهيأ إلا ببرنامج جامع عابر للمناطق والانتماءات، فبرنامج خدمة العلم، في جوهره، مشروع تربوي أخلاقي ووطني، يهدف لصقل شخصية الشباب بدنياً وفكرياً وثقافياً وتعزيز الهوية الوطنية واحترام قيمة العمل التطوعي والانضباط وتحمل المسؤولية، ويُعيد ترميم العلاقة بين الشباب ووطنه، بين الفرد ومؤسسات الدولة، وبين الحق والواجب، وهي سمات لا توفرها المناهج التعليمية بقدر ما يوفرها الميدان وسوق العمل، حيث أن الكثير من أرباب العمل ينظرون بإيجابية إلى من خضع للتجنيد، لما يحمله من صفات تُعلي من فرصه في العمل والإنتاج والمبادرة.
جمع وصهر شباب الأردن من مختلف المحافظات في معسكرات وطنية، لا ينتج فقط كفاءات منضبطة، بل يرسّخ تجربة وجدانية تتجاوز الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية لصالح انتماء أعمق للوطن، وفي هذه البيئات التفاعلية يتشكل وعي جمعي جديد قوامه الحوار والتنوع والتكامل، يتحول فيها التنوع إلى مصدر قوة لا انقسام، وتغدو الخدمة تجربة تنسج روابط متينة بين أبناء المدينة والبادية والريف والمخيم، وتعيد الاعتبار للمواطنة بوصفها رابطة جامعة لا مهمش فيها، فما أن تُروى القصص المشتركة بين المتدربين، حتى تبدأ سردية الانتماء بالتشكل من جديد، فكل مواطن يُجنَّد هو خندق جديد في الجبهة الداخلية، يساهم في تعزيز التماسك الوطني وإعادة بناء الروابط الوجدانية بين الشباب ووطنهم، وبهذا المعنى، لا تنفصل خدمة العلم عن الأمن الوطني للدولة، فهي تغرس في المنتسبين وعياً ذاتياً يحصّنهم ضد خطابات السلبية والتطرف والتضليل والانجرار وراء الإشاعات أو التصدعات الفكرية.
ومن هذا المنطلق، جاء إعادة خدمة العلم كمشروع وطني برؤية ملكية أطلقها سمو ولي العهد المعظم “الحسين بن عبدالله الثاني” اطال الله بعمره بعد دراسة حثيثة من الحكومة والقوات المسلحة، وسيجري تنفيذه وفقاً لقانون خدمة العلم والخدمة الاحتياطية الذي من المفترض إجراء التعديلات الدستورية عليه وبما يتناسب مع متطلبات المرحلة وهذا البرنامج، وسيتم تطبيقه بدءاً من العام 2026 وبواقع ستة الاف شاب من مواليد 2007 الذين اتموا الثامنة عشرة من عمرهم، حيث سيتم اختيارهم عشوائياً من كافة محافظات المملكة، وليتمازجوا بنكهة اردنية، تجعل منهم قدوة وطنية لأقرانهم من لم يتم اختيارهم في هذا البرنامج ولكافة الأردنيين، ومن المخطط خلال (10) سنوات زيادة إعداد المتدربين بشكل تدريجي يشمل كافة مواليد كل عام.
ختامًا، تقع مسؤولية إنجاح إعادة خدمة العلم على كافة مؤسسات الدولة، ولكنها تقع بشكل خاص على القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، التي كانت على الدوام مصنعاً للرجال، ومنارة للقيم، وحاضنةً للانتماء، ومن خلال تنفيذها لبرنامج خدمة العلم، تُضفي طابعاً من الجدية والهيبة والمصداقية، ما يُعزز ثقة المجتمع بجدواه وفاعليته، فنجاح خدمة العلم لا يُقاس بعدد الخريجين أو بحجم التدريبات أو بالمدة، بل يُقاس بقدرته على تشكيل وعي جديد، واستعادة مفهوم “المواطن القادر” الذي يصنع التغيير ولا يرى في الوطن مجرد مساحة جغرافية، بل عقدًا أخلاقيًا ومصيريًا بين الفرد والدولة، وبهذا المعنى، تصبح خدمة العلم مشروعًا وطنيًا عابرًا للمراحل، يؤسّس لحالة أردنية متقدمة من الانتماء والمواطنة الواعية، والهوية الوطنية الأصيلة التي لا تنكسر أمام الأزمات، بل تزداد صلابة ومنعة.
حمى الله الأردن وحفظ صاحب الجلالة الهاشمية الملك “عبد الله الثاني” وولي عهده الأمين