مرايا – كتب : عمر كلاب

يسألني صديقي المسيحي إن كان الإسلام فعلا قد حرّم مباركتهم في الاعياد, وانه لا يجيز تهنئتهم, وهل الذمي اقل مرتبة في المواطنة؟ فإذا كان الامر كذلك, فلماذا ابادر, وانا المسلم الى التهنئة, طبعا السؤال جاء بوصفي مسلما صائما, وهذا بالنسبة له دليل التزام, بكل التعليمات, فلماذا اخالف التعليمات واقوم بالتهنئة, وطبعا ادرج الصديق جملة فتاوى تحرّم التهنئة بل وتطلب التضييق على المسيحي, وكل هذا موجود في بعض كتب الفتاوى وموحود في عقول ليست بالقليلة من عقول المشايخ ومن يتصدون للافتاء, وفي ذهن شريحة معقولة من المجتمع الاسل?مي, وبما اننا في موسم الاعياد فمن المفيد ان نتحدث في هذا الامر دون تشنج او مداهنة.

في التأصيل النظري ثمة فتاوى فيها الكثير من التشدد, ولكنها جاءت في سياقات محدودة وظروف استثنائية, وذلك بعد ان تعرضت الحضارة الإسلامية لحروب صليبية وتتارية, ولقهر وظلم وقتل وسفك دماء وتشريد، وأن المسلمين عاشوا فترات استعمارية قاسية جداً، وشيء طبيعي أن تصدر في مثل هذه الفترات فتاوى تتعلق بالغير من الأمم التي هجمت على المسلمين وأذاقتهم الويل والعذاب صنوفاً وألواناً، وأن تتلون بلون الفترة التى يعيشها المسلمون ضد الغزاة أو المستعمرين، مؤكداً أن فتاوى هذه الفترات كانت في فترة المدِّ الصليبي والمد التتاري على الأم? الإسلامية, بمعنى انها وليدة ظرف استثنائي, والفترات الاستثنائية حبلى بكل تشدد, وبالتالي انكار هذه الفتاوى لن يخدم حالة المواجهة والمجابهة مع هذا التشدد, بل يخدمنا العودة الى الاصل وليس الى الاستثناء.

الاصل قامت دولة الإسلام فى المدينة المنورة -وكان يرأسها النبي -صلى الله عليه وسلم- على مبدأ المواطنة، وكان فيها يهود ومشركون بجانب أكثرية مسلمة, وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذهب إلى المدينة وتكونت الدولة، وضع دستور المدينة أو وثيقة المدينة وهو أول دستور نفاخر به العالم كله بل والتاريخ، ونص فيه على أن سكان المدينة أمة واحدة، كما جاء فيه: «وَإِنّ يَهُودَ بَنِى عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ..»، وهذه مواطنة كاملة في الحقوق والواجبات تقوم على أساس الأ?ض وعلى أساس الدولة والبقعة التي يعيش عليها الناس، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين, وان مصطلح الذمي جاء لاحقا, وفي سياق تأريخي وتوظيفي لطبيعة التكوينات المجتمعية وليس في باب التصنيفات ودرجات المواطنين.

مصطلح أهل الذمة لم يعد مستعملاً ولا يجوز ان يعود للاستعمال، ومؤسساتنا الدينية لا تقوله ولا تصف به شركاء الوطن بحال من الأحوال, فهذا المصطلح «أهل الذمة» الآن مصطلح غير مستساغ مع أنه كان في ذلك الوقت مفخرة للدولة الإسلامية؛ لأنها أول حضارة تحفظ حقوق غير المسلمين، وتؤكد المساواة التامة بين المواطنين من خلال الصيغة التعاقدية بين غير المسلمين وبين الدولة الإسلامية, وبالتالي لا يجب أن يُنتزع هذا المصطلح من محيطه التاريخي ويُحاكم بانطباعات الناس، او يترك لتفسيرات الكارهين للتراث بسبب أو بآخر، الذين يأتون بفتوى قي?ت في وقت عصيب، ليقولوا هذا هو الإسلام وهذا هو فقه الإسلام وهذا هو التراث الإسلامي، وكذلك المتشددون الذين يستوردون حكماً كان يواجه التتار أو الصليبيين في بلاد الإسلام ليطبقوه الآن على غير المسلمين، لان كلا الفريقين كاذب.

مواجهة التطرف او التشدد ليس بانكار فتوى, ولكن بحوار يضع كل فكرة في سياقها التاريخي, وطبيعة الظرف المجتمعي, ولكن الاحتكام للاصل وليس للاستثناء والاصل يقول ان العلاقة بين الدولة ومواطنيها علاقة تعاقدية قائمة على المواطنة فقط, وعلى كل طرف ان ينقي جسده ممن ينتسبون اليه شكلا وليس مضمونا سواء في المجتمع الديني او الفضاء الاجتماعي, والخارج عن ذلك تتولاه دولة المواطنة بالحسم والقانون المدني العام.

omarkallab@yahoo.com