مرايا – بقلم: عمر كلاب

كتب الراحل محمود درويش في رثاء الراحل راشد حسين قصيدة قال فيها «منذ عشرين سنة وأنا أعرفه في الأربعين»، وحتى اللحظة ورغم مرور كل تلك السنين ما زالت الكلمات صالحة للاستهلاك الآدمي، فمنذ ثلاثين سنة وأنا أراهم نفسهم، اكتمل شيب الرأس أو استدارت الرأس البراقة مثل بيدر رمال في صحراء دون أشجار، في كل مناسبة تجدهم يستعيدون شيئاً من الوجدان أو يحلمون بحضور جديد، في «النكبة» أو في ذكرى سقوط العواصم وحتى في أتون «الربيع العربي»، كانوا هناك تجاوزتهم اللحظة ولم يتجاوزوها، يهتفون للشهيد النائم على قارعة طريق العودة أو ال?صر ويهجون الاحتلال والاستعمار وأميركا.
منذ ثلاثين عاماً وقليل من السنوات كانوا شباباً على اسوار مجمع النقابات المهنية، أو في أركان رابطة الكتاب الضيقة وأي مكان يفتح لهم ذراعيه، يناقشون بعنف ثوري ويحلمون بصوت مرتفع، ويتبارون في أحاديث الاعتقال والصمود أو استذكار من اشترى تذكرة الصعود إلى حافلة الاستنكار أو السقوط، كان الخلاف على محبة دمشق أو بغداد، والحلم بالعاصمة مكاناً فسيحاً للحرية وساحة للأهازيج والقصائد وخبز ساخن في صغير، هرموا وما زالوا على موعدهم مع ذكرى النكبة والنكبات، هرموا في انتظار نصر ولو صغير، صنعوا من الفكر عباءة لم يخلعوها حتى يو?نا هذا، دون احتساب الفوارق والديالكتيك والجدلية التاريخية، وما زال واحدهم يقسم بشرف الثورة وروح الشهداء وصورة عبد الناصر.
نستذكرهم حين يرحلون, او حين تداهمنا بعض المواقع بصورهم في مناسبة كئيبة, لم يعرفوا لحظة نصر ولم يتعرفوا على ذائقته، فصنعوها اصناما يأكلونها ذات هزيمة مركبة او متكررة، ليسوا جاهليين بالقطع, ليصنعوا آلهة من تمر يأكلوها ذات جوع، لكنها شهوة النصر حتى ولو نصر وهمي او نصر افتراضي, يتمسكون بأحلامهم بياسمين دمشق ونخل العراق ورطب الصعيد، ولم يتقنوا الفواصل بين المكان والنظام، فاختلطت الرؤية واظنها العَشى الثوري، فالعَشى مرض يصيب العين بعد تيبّس العصب الواصل الى الدماغ، رسموا الصورة وحافظوا على رسمهم رغم اختلال الصور?.
اليوم نستذكرهم قبل الرحيل، واستذكر ما قاله ذات مقابلة المبدع اميل حبيبي في مقابلة صحفية، حين سأله الصحافي عن التوسع في الحزب، فأجاب: «من يموت لا نجد بديله ومن يدخل الحزب يكون أحد ابناء الرفاق»، وحتى ميزة الابناء اظنهم فقدوها, فالجيل الجديد لم يسمع ولم يشاهد ما قاله الاباء عن الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية، بل الآن الأنظمة التي تغنّى بها الاباء كانت على عداء مع كل المصطلحات السابقة، فلا وحدة بين بعثين، ولا حرية في القطرين وباقي الأقطار، والعدالة الاجتماعية لفظة ترددها السنة الساسة في الحكم والمعارضة.
أمس كانت صورهم على معظم المواقع الإخبارية، ما تغير فقط شيب الرأس أو زوال الشعر، ووجوهم باتت مثل كعكة مغموسة في الشاي لكثرة التجاعيد, هدروا على منصّة الخطابة بنفس الكلمات، وأعاد عريف الحفل نفس القصائد في التقديم، وغنّى المغني نفس الأغاني مع تراجع في صدى التصفيق والتواء الكواحل في الدبكة أو منسوب التمايل مع الأغنية.
لا نستطيع إدانتهم ولا اتهامهم فهم على موعدهم ووعدهم، لكن اللحظة خانتهم والواقع تجاوزهم، فلماذا يمسك قادة الأحزاب القومية واليسارية على المواقع بالنواجذ، وهم يطالبون بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية رغم كل الخسائر البدنية والمعنوية، مجرد سؤال متأخر ورثاء رغم بقائهم على قارعة الحياة؟
omarkallab@yahoo.com