مرايا – كتب :د. مهند العزة

“إذا أردت أن تطاع، فأمر بما هو غير مستطاع”. في هذه القاعدة المعوجّة وجد سدنة الكهنوت أولي العِوَج ضالّتهم لاختطاف العقل وجعله غلاماً مُستَرَقّاً لدى عبيد النقل، فنزلوا به من عليائه عنواناً للحقيقة وأصل مكنونها إلى دَرْك العبثيّة وفوضى مجونها، ومن كونه أصل المعرفة وحاضنتها إلى جعله صنيعة الخرافة وحرباء ما فُرِضَ من الثقافة، فتراه يتلوّن بلونها مختبئاً في ندوبها من كلّ ما هو غريب عنه وجديد.

نجح الكهّان آفة كلّ عصر وزمان؛ بجعل التطهير الفكري جزءً أصيلاً من الهويّة الثقافيّة لدراويش الحضرة من خلال تنزيه العبثيّ من الأفكار عن النقد والمناقشة بتلبيسها ثوباً ماورائيّاً تتخلّله رقع من القداسة المصبوغة بلون الدم، ليغدو السؤال جريمة والبحث عن الحقيقة كبيرة ومجرّد الدعوى لقبول الآخر عملاً تآمريّاً يراد به النيل من المجتمع حتى لو كان في أساسه “متنيّل بستين نيلة” إلى الحدّ الذي بدأ معه كبار صقور المعبد يخجلون ممّا حُمِّلوه وحملوا الناس عليه، ليبدأوا البحث في تعاويذهم عن ترنيمة أو حجاب وتميمة تظهرهم أقلّ بشاعةً في أعين شعوب صنّفتهم في ذيل قوائم الأمم المتمدينة بسبب استعذاب وامتهان الامتهان لكرامة الإنسان وتضليل أتباعهم وقمع مخالفيهم، إلّا أنّهم لم يفلحُ، إذّ أنّ كلّ ما استطاعوه؛ هو إخفاء عوراتهم الفكريّة وسوءاتهم الأخلاقيّة خلف ربطة عنق أظهرتهم على الشاشات وفوق منصّات المؤتمرات مجرّد أرجوزات في حفل تنكّري من الدرجة الثالثة.

“الّلي تغلبّه العبّه”، قاعدة بهلوانيّة أخرى وجد فيها القوم -بعد أن دانت لهم العقول وتمرّغت في تراب النقول- وسيلةً مضمونةً لإخضاع القيم والأخلاق لمعاييرهم الغائيّة على نحو يجعلهم يستمرّون في رفض التنوّع والتعايش والتسامح والمساواة… كما هو عهدهم وديدنهم، وفي الوقت نفسه إيهام غيرهم بأنّهم “موديرن و كيوت” يجارون العصر ويعصرونه، إذّ هداهم شيطانهم إلى وصفة “التليين بالتديين”، فما لا يستقيم عندهم من مبادئ وقيم كافحت شعوب الأرض لانتزاعها؛ يعمدون إلى إفراغها من مضامينها وحشوها بالخلطة السريّة المقدّسة، لتظهر منتجات “التنوّع والتعايش والتسامح والمساواة… ” بنكهة التمر ورائحة العود حصراً فيأكلها الدراويش قصرا.

ظاهرة تديين القيم والمبادئ من أخطر ما عرفه الفكر الإنساني، لأنّها مكّنت أباطرتها من قلب المفاهيم رأساً على عقب، فغسلوا أدمغة أجيال من البشر الذين تلوّثت فطرتهم واغتصبت كينونتهم وشوّهت هويّتهم، فآمنوا أنّ نبذ الآخر واستئصاله قربى وزلفى، وأنّ الصمت عبادة ومنجاة والكلمة هلاك وملهاة، وأننا أصل الطهارة ومن سوانا رجس وقذارة… فبات التوحّش ضدّ كلّ صاحب كلمة ورأي بطولة، وإهانة المرأة رجولة، واغتصاب الزوجة فحولة، والتحقير والتقتير الأخلاقي اتجاه أصحاب العقائد المخالفة إلى حدّ الامتناع عن تهنئتهم بأعيادهم وتعنيف من يفعل ذلك؛ نصرة للدين في مواجهة “المغضوب عليهم والضّالين”.

ثمّة قلّة من رجال الدين المعاصرين “المخلصين” لما سافر عبر السنين من تعاليم؛ يرفضون منهج التديين المزدوج الذي من جهة يشوّه القيم الإنسانيّة المتحضّرة بتديينها وإفراغها من مضامينها لغايات كهنوتيّة وسياسيّة، ومن جهة أخرى يقوم بتديين الممارسات المتناقضة مع السجيّة والسويّة من خلال إسباغ صفة لاهوتيّة عليها؛ لتغدو مستساغت المذاق بما أضفي عليها من نكهات وزواق. أبى هذه القلّة من معتنقي “التديين الأحادي” إلّا أن يظهروا بنسختهم الأصليّة دون تحديث (Update) ربّما إلى حين، فجاهروا برفض التنوّع وحريّة العقيدة واحترام الرأي الآخر… لكونها “تتعارض مع الشرع”، وفي الوقت نفسه كرّسوا الكراهية والبغضاء استناداً إلى قواعد ومبادئ أصوليّة أهمها –من وجهة نظرهم- مبدأ “البراء والولاء”، ومن أبرز هؤلاء؛ مشايخ ما سمّي ب”مربّع الدفاع السنّ” الذي يضمّ الشيخ الكويتي عثمان الخميس، والشيخ الإيراني السنّي المقيم في إأنجلترا عبد الرحيم ملازاده الملقّب ب”أبي المنتصر البلوشي”، والشيخ اللبناني عبد الرحمن دمشقيّة المقيم في إنجلترا أيضا، والشيخ السوري عدنان العرعور المقيم في الرياض، حيث اشتهر هؤلاء بمجاهرتهم بالتحريض على المذاهب الشيعيّة المختلفة ةونحت مزيد من تماثيل آلهة الابتذال والاستئصال ضدّ المخالف وبثّ الكراهية بين السنّة والشيعة من خلال المناظرات التي كانت تبثّ في مطلع هذه الألفيّة عبر قناة المستقلّة من لندن، حيث وفّرت هذه القناة منبراً غير مسبوق للحضّ على ازدراء الآخر وتسفيه معتقده وتكفيره من خلال حلبة مصارعة تحت مسمّى مناظرة، كان يجتمع فيها عتاة التطرّف الفكري من الجانبين (السنّي والشيعي)، فيضخّون جرعات مركّزة من الحقد الدفين والعنف الفكري الذي كان وما يزال يجد صداه بين شعوب الدول العربيّة والإسلاميّة. ظلّ أعضاء هذا الرباعيّ العنيف مخلصين لنهج الكراهية الذي عشقوه فأنعشوه فسوّقوه، فاستمرّوا بهمّة ونشاط في التحريض والتأجيج حتى بعد ان انفضّت جوقتهم واستقل كلّ منهم بموقع ألكتروني أو قناة فضائيّة خاصة به يرتكب من خلالها جريمة تديين السلوكيّات والممارسات المتنافرة مع الفطرة والمتناقضة مع مبادئ حقوق الإنسان في شتّى المجالات الحياتيّة، ليتجرّعها المريدون تحت تأثير التخدير العقلي الكلّي.

في هذا المقطع: https://www.youtube.com/watch?v=f0XpyvKsFew يقدّم الشيخ عثمان الخميس نموذجاً حيّاً على التصالح مع النفس من خلال تديين الشذوذ القيمي، حيث يقول بوضوح منقطع النظير أن: “الإسلام ليس دين مساواة، فهو لا يمكن أن يساوي بين المرأة والرجل لأنهما مختلفان، والمساواة لا تكون إلّا بين متماثلين، وأنّ المرأة التي تريد أن تصبح قاضية أو وزيرة أو رئيسة دولة هي خارجة عن سياق ما شرعه الله من عدم جواز المساواة بين الجنسين، وأن الدستور بنصّه على المساواة بين الرجل والمرأة يخالف شرع الله فلا يلتفت إليه، وأنّ العدل (طبعاً كما يفهمه الشيخ) هو الوصف الصحيح لما قضى به الإسلام وأوجبه، لأنّ العدل يعطي كلّ ذي حقٍ حقّه دون أن يساوي بينهم، فهو يضمن للمرأة متطلبات حياتها من خلال الرجل الذي هو قوّام عليها بما فضّله الله…”.

التنوّع الديني والثقافي والفكري قيمة لا تغرسها حملات توعية أو كسب تأييد، ولا يفرضها حاكم ولا قوانين ومحاكم، فهي غاية لا تُدرَك إلّا بتنشئة جيل يعشق النقد والتحليل، يحلّق بفكره إلى عنان السماء لا يحدّه نقل أو إملاء، الأمر الذي لا يتأتى إلّا بنهوض وجهود ضحايا من اكتووا بنار الإقصاء والازدراء وذاقوا مرارة هزليّة وهزال آفة تديين التنوّع.