مرايا – كتب:د. مهند العزة – التلفزيون الأردني مثله مثل التلفزيونات الرسميّة في الدول العربيّة والإسلاميّة؛ لا يكاد يتذكّرها المشاهدون إلّا حينما يحدث فعل غير مألوف أو يصدر تصريح مثير للجدل في أحد برامجها أو لقاءاتها أو تقاريرها التي لا يشاهدها سوى المعد والمخرج والمصوروّن وقلّة من أقارب الضيوف والمقدّمين. هذا العزوف عن متابعة التلفزيونات الرسميّة مردّه إصرار القائمين عليها على العيش في جزيرة منعزلة عن المحيط السياسي والاجتماعي والتعامل مع الجمهور وكأنّه أعزل من وسائل الاتصال التي وضعت العالم بإعلامه ومنصّاته ومنتدياته بين يديه ليتأثر بها ويؤثّر فيها.
الحدث الذي لفت الانتباه إلى التلفزيون الأردني هذه المرّة كان ذو نزعة تميزيّة متطرّفة، حيث امتنع عن إظهار لاعبة كرة السلّة روبي حبش بسبب ارتدائها بنطالاً ممزق فوق منطقة الركبة، وبرّر مصدر في التلفزيون هذا التصرّف التمييزي بقوله: “لباس اللاعبة لا يتناسب ومعايير التلفزيون ولا مع الذوق العام للمشاهد”! وكما هي العادة، لم يبين المصدر فحوى تلك المعايير ومن الذي وضعها وأين تم نشرها، ولم يوضّح المقصود بـ “الذوق العام للمشاهد” وهل التلفزيون الرسمي هو الوصي على هذا الذوق أم أنّه الوكيل الحصري لتحديد كنهه وما يتناسب معه؟
الأمير علي بن الحسين بأفقه المفتوح وفكره المستنير وبحكم عمله القيادي والريادي في مجال الرياضة، قام بتصوير نفسه وهو يرتدي بنطال ممزق يظهر جزءً من ركبته كتب عليها “معكِ يا روبي” معبّراً عن رفضه لهذه الممارسة التمييزيّة أولاً وعن تضامنه مع ضحيتها ثانيا، ليجد بلطجيّة ومتطرّفو الترندات الذين ملّوا من الانتظار بعد عودتهم سالمين غير غانمين من غزوات “قضية الفتنة” وأسامة العجارمة ولجنة تحديث منظومة الحياة السياسيّة… فرصةً لتليين العضلات وتجديد النشاط واختبار القدرات التوحشيّة والمواهب التنمريّة، فانهالوا على الأمير بوابل من النقد الذي اتّسم جلّه بالشخصنة والغوغائيّة كما هي العادة، موظّفين الدين تارةً والفتنة تارةً أخرى لتكبير “الفنكوش” وجعله قضية رأي عام.
جانب كبير ممن هاجموا الأمير اتّهموه بما يفتخر به كلّ نبيل يحترم آدميّته من “التشجيع على التحرر… وتعزيز احترام الحريّة الشخصيّة… والثورة على البائد من العادات والتقاليد…”، وهذا التيار على رخص توظيفه للدين لتبهير “الفنكوش”، كفى مخالفيه مؤونة الردّ عليه، إذ يتحدّث عن نفسه من خلال تقديمه لثقافته الظلاميّة وفكره المتطرّف دون خجل ولا مواربة، فلا أصدق قيلاً ولا أبلغ تمثيلاً لوصف وتوصيف هذا التيار أكثر مما عبّر هو به عن ذاته ونظرته للحياة التي اختزلها في أعضائه التناسليّة، فجعل من شعر المرأة وركبتها وذراعها بل وكعبها وصوتها وعطرها… مجرّد حبّة زرقاء أثيريّة تثير غريزته المكبوتة وشبقيّته الممقوتة.
ثمة آخرون كان مناط مهاجمتهم للأمير تضامنه مع اللاعبة، اعتبارهم أنّ هذه “قضية ثانويّة، وأنّ الأولى كان إظهار التضامن مع من أشعل النار بنفسه وألقى بها من فوق أحد جسور العاصمة عمّان يوم الخميس الماضي، وتأييد غيره ممن يواجهون الفقر والبطالة…”. والحقيقة أنّ هذا توظيف أكثر رخصاً من سابقه لمظالم الناس ومعاناتها في سياق منبتّ الصلة عن أصل الموضوع، إذ أنّ مناهضة أي ممارسة تمييزيّة أو تنمريّة يتطلب تسليط الضوء عليها ثمّ إظهار رفضها ودعم ضحيّتها، أما مظالم الناس وآلامهم فليست سوقاً يزايد فيه المتاجرون على بعضهم البعض بالصراخ والتباكي، إذ ينبغي معالجتها بعيداً عن مزادات الفزعات وتحقيق البطولات وشراء الشعبويّات.
إقحام مظالم الناس في غير سياقها والمتاجرة بمعاناتهم بالنسبة لبلطجيّة الترندات، لا يعدو كونه أداة لإيقاظ الفتنة من سِنَتها، فقد بدأت الجماهير التي لا تزال واقعة تحت تأثير التنويم المغناطيسي؛ بعقد المقارنات بين الأمير علي وبعض أطراف “قضية الفتنة”، وكما قالوا أقول: “شتّان”، فمن ساند شقيقته في محنتها بشجاعة وشرف وحارب الدنيا من أجلها، ومن يقدّم يد العون والمساعدة للكثيرين في صمت وتكتّم، ومن يدير مؤسسات رياضيّة والمركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات بنجاح، ثمّ ينافح عن ضحيّة تنمّر وتمييز بسبب لباسها، تماماً كما وقف بحزم ضدّ قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) منع اللاعبات المسلمات من ارتداء الحجاب مدافعاً عن حقّهن واختيارهنّ حينما كان نائباً لرئيس الاتحاد… شتّان بينه وبين من تاجر بمظالم الناس ومطالبهم المحقّة بالعدالة والإصلاح، فأراد بالحقّ باطل، ساخراً من الشعب ضاحكاً مجاملاً مجارياً شريكاً نزقاً وهو يستخدم من الألفاظ أبذءها وهو يستهزئ بالأردنيين وبمعركة كرامتهم.
أمير الشعراء أحمد شوقي عبّر عن عرض بل مرض تقديس قطّاع الطرق أرباب التدليس، مقاتلوا الحناجر مستخدمو الألسنة حِراباً وخناجر؛ في مسرحيّة “مصرع كيلوبترا” حيث يقول على لسان “حابي” وهو يخاطب “ديون”:
“اسمع الشعبَ (دُيُونُ)
كيف يُوحون إليه
ملأ الجوَّ هُتافًا
بحياتيْ قاتليْه
أثَّر البهتانُ فيه
وانطلى الزور عليه
يا له من بَبَّغاء
عقله في أذنيه”.
من ينتصر لقيم الحريّة واحترام الخيارات الفرديّة ويدافع عن ضحايا التمييز والتنمّر بإظهار ركبتيه، خير ممن يجثو عليهما ما أن يرى خصلةً من شعر سيدة أو يلمح رسغها أو يرمق كعبها أو يشتمّ عطرها أو يسمع ضحكتها (والعياذ بالله).
ليس من خيبة ترثي لحال صاحبها أكثر ممن يستشعر قيمة وجوده من “رجولة” اختزلها بين فخذيه، ولا نكبة وظّف صاحبها عقله وعاءً فجعله في أذنيه.