د. مهند العزة
 
صباح يوم عبوس، تمكّن منّي الشيطان فوسوس لي بأن أقوم بإنجاز معاملة رسمية خاصة، فطلبت من صديق لي أن يساعدني، فذهب إلى المؤسسة وفور وصوله اتصل بي زافّاً لي بشرى أنهم لم يعد بالإمكان استقبال معاملات ورقية بعد أن تحوّل الجماعة  إلى الرقمنة. فرحت وتصببت عرقاً خجلاً من انخفاض توقّعاتي بسرعة استجابة مؤسساتنا للثورة الرقمية.
دخلت من فوري إلى موقع المؤسسة  باحثاً عن الرابط الخاص بتقديم الطلبات، وكان صوت قارئ الشاشة يشجي وهو يقول: “طلبات جديدة”. وقفت على الرابط وضغط بقوّة المتحمس على زر الإدخال “إنتر”، فلم يحدث شيء، ثم قمت بالضغط على F5  لعمل “Refresh”  للصفحة لكن هيهات، فاعتقدت جازماً أن الموقع ربما غير مهيأ لمستخدمي قارئ الشاشة من المكفوفين،  وقبل أن يبدأ شيطاني ببث سمومه، صحت فيه: “هششش! ولا نَفَس! يعني خدمات جديدة وما قمت بالتواصل معهم عشان تساعدهم يخلوا الموقع مهيأ، وإلك عين تتفلسف!”.
توجّهت إلى زميلتي طالباً منها مساعدتي لتعبئة الطلب، ابتسمت ورحّبت معتذرةً لزميل كان يتحدث إليها على الهاتف، ووعدته بمعاودة الاتصال به بعد 10 دقائق على الأكثر… مسكينة، ما أطيبها! بدأت تكافح مع فأرة الحاسوب لفتح الرابط، مرةً ثانية… فثالثة… فرابعة… ثم خامسة عشان الحبايب… لكن دون جدوى. استأذنتها أن أنادي: “دَستور… يالله يالله” لعل هناك من دخل إلى الرابط وأغلقه وراءه واستلقى داخله بفنيلته الشبّاح ليستريح من قلّة العمل.
اتّهمت جهازها بالخلل واتّهمت شبكة الإنترنت عندنا بالتآمر والتباطؤ، فقمنا بإعادة تشغيل الحاسوب، ثم  فصلنا “الراوتر” وأعدنا تشغيله، اتّباعاً لتعويذة شركات الاتصالات الوحيدة الموحّدة التي يقرؤونها على زبائنهم حينما يستنجدون لإصلاح أي عطل في الشبكة.
بينما بدأ اليأس يتسلل إلى نفسي، صاحت زميلتنا مبتهجة: “فتح الرابط!”، لتظهر لها شاشة تطلب إنشاء حساباً باسم مستخدم وكلمة سر، لبيّنا النداء لكن كلما أدخلنا اسم مستخدم قذفنا النظام وألقى بنا إلى الشاشة الرئيسية، لنقف على عتبات الرابط الفرعي مرةً أخرى متوسلين السماح لنا بالدخول.
زميلتنا الطيّبة اقترحت أن نتّصل برقم موجود على الموقع وفوقه عنوان: “لطلب المساعدة، اتصل على…”، لكن يبدو أننا توسعّنا في التفسير، فالقوم صحيح وضعوا رقماً لطلب المساعدة، لكنهم لم يقولُ أبداً أنهم سيستجيبوا، لذلك لم أتعاطف معها حينما استاءت من عدم الرّد.
تواصلنا مع أحد العارفين طلباً للنجدة، فحوّلنا مشكوراً إلى رئيس القسم الذي بدوره طلب منا الاستمرار في المحاولة مستذكراً معنا قيمة الصبر والمثابرة… وأن من جد وجد ومن سار على الدرب وصل… ومن طلب العلا سهر الليالي… واللي بتلسعه الشوربة بينفخ في الزبادي… ويهنيّالك يا فاعل الخير والثواب.
تجرّأت فطلبت من المعنيين قبول طلبي ورقياً! رفضوا بحزم، فلا ردّة عن  التحول الإلكتروني خصوصاً في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إلى الإصغاء لما تقوله وزارة الصحة من وجوب تجنّب الاكتظاظ. القوم محقّون طبعا، فمن جهة أولى، لا يمكن السماح لرجعي مثلي أن يعيد عقارب الساعة إلى الخلف وينقلب على الثورة الرقمية لحساب الرجعية الورقية، ومن جهة أخرى،  لن يسمح لأمثالي أن يكون سبباً في تكرار تراجيديات عرس إربد والصيدلاني عمان وعرس ماركة وطبيب الأسنان فيها وسائق الخناصري، وغيرهم ممن بعثوا الحياة في الفيروس بعد أن “نشف ومات”.
قمنا بتشكيل “كونسولتو” رقمي مشترك وتمكّنا أخيراً في اليوم التالي من فتح الرابط وتعبئة الطلب، فعمّت الفرحة وتعالت الالزغاريد واتصلت لأحجز صالة للاحتفال بهذه المناسبة، لكن أوامر الدفاع حالت دون ذلك، فاكتفيت بفرك يدي وطلب فنجان شاي، لكن أجواء الفرح لم تكتمل، إذ أخبرني الثوّار الرقميّون أنه يتوجّب عليّ الذهاب لتسليم المعاملة واستلامها ورقياً ودفع سبعة دنانير ونصف  في الصندوق!
اندفاعي الذي طالما حذرتني أمي منه، أوردني المهالك فسألت سؤالاً سخيفا: “طيب لماذا لا ندفع أونلاين؟”، ليأتيني الجواب الذي يستحقه المتسرّعين أمثالي: “أنهم صحيح أنشأوا نظاماً لتعبئة الطلبات، لكن لم يقومُ بربطه بأي من أنظمة الدفع الألكتروني”. ذهبت بصحبة زميلي ووقفنا أمام الصندوق لندفع مصطحبين معنا الطلب الإلكتروني ورقياً كما طُلِب منا! قلّب الجالس خلف الحاجز الزجاجي الأوراق ثم سأل بهدوء: “مش عبّيتوأ الطلب أونلاين؟”، فأجبنا بحماس: “طبعا! عبّينا وكان من أسهل ما يمكن، ما شاء الله!”. فسألنا من فوره تماماً كالّذي يحفظ درسه: “طيب وين الإشعار اللي بيقول أن الطلب معبّأ؟”. لم تسعفنِ رعونتي المنفلتة من لجامها، فناولت الرجل سؤالاً أكثر سخفاً من سابقه: “مش الطلب أمامك ورقياً وعلى الشاشة؟ ومبيّن أنه معبء حسب الأصول؟ وين المشكلة؟”. بلطف لا يخلو من حزم أجاب: “لازم الإشعار”.
فكّرت ثم قدّرت، وقُتِلت كيف قدّرت، فاتصلت فوراً بزميلتي طالباً منها أن ترسل الإشعار على الواتساب، ففعلت،  فأعطينا الهاتف للرجل وعلى وجوهنا ابتسامة عريضة ليعاينه…فَعبَس ثم قال وهو يشيح بوجهه عنّا: “لازم ورقي ومطبوع بشكل واضح”.
عدنا أدراجنا وبانوراما العبث تحيط بنا من كل جانب، فطبعنا الشعار بعد معاناة ومرار، وعدنا لتسليمه، لتتجلى كرامات الرقمنة التي استغرقتنا يوماً كاملاً نحاول فيه فكّ طلاسم الدخول إلى المقبرة الفرعونية لتقديم الطلبات الإلكترونية، ثم الانتظار 5 أيام حتى يأتينا تأكيد بقبول الطلب، لنحضره بعد ذلك ورقياً وندفع الرسوم، ثم إبراز نسخة ورقية من الإشعار لإثبات استكمال تعبئة الطلب ألكترونيا!
التحوّل الرقمي ليس نظاماً يطوّره مبرمج ويقوم بتنصيبه على سيرفاراتنا، فهذا أبسط ما في الأمر، المهم حقّاً هو التحول الذهني والفكري والمسلكي لمن يتعامل مع الأنظمة، فإن لم تسبق الرقمنة عمليات عقلنة وفهمنة وقوننة… وما إلى ذلك من أخوات الأنأنة، فإنها ستكون مولد صاحبه غايب.