د. مهند العزة
 
“إذا قالت حذامِ فصدقوها، فإن القول ما قالت حذامِ”.
إذا كانت آراء المؤرخين اختلفت حول أصل هذا البيت وتنوعت تصريفات النحاة لاسم “حذامِ” فيه، فإن ما لم يختلف عليه أحد من المتقدمين والمتأخّرين هو معنى البيت وسياق جريانه مثلاً يُضرَب على تفويض القوم أمرهم لمن يرون –اعتقاداً أو نفاقاً- سداد رأيه وحصافته.
لم تنتظر قلّة من دراويش المناصب الذين ضمتهم لجنة تحديث المنظومة السياسية كثيراً حتى أعلنوا البيعة للتيار المحافظ وباعوا بضاعتهم اليسارية أو الحقوقية أو المدنية أو الديمقراطية أو المهلّبيّة…التي كانوا يتاجرون فيها في “دكّان” حقوق إنسان أو مكتب خاص أو في أزقة سوق الصحافة… إذ كان واضحاً  محاولة هؤلاء إظهار التماهي مع ما سمعوه ولم يختبروه من التوجه العام للقائمين على إدارة دفّة اللجنة الذي يصنّف بأنه محافظ، ليعيش هؤلاء الدراويش “الحالة” وتستبد بهم نشوة تغيير الجلد ولوعة انتظار الوعد، فيُنشِدوا مترنّمين: ” القول ما قالت حَذامِ”، مستحقّين عن جدارة، وفهلوة وشطارة، شعار التجّار في حلبة السياسة الذي يُطلَق على من يُطَلِّق مذهبه ويُطلِق لجامه للموجة الدارجة  لتذهب به؛ أنه: “ملكيّ أكثر من الملك”.
اشتمال أي لجنة حوار أو “إصلاح” على ألوان وتيارات سياسية وفكرية مختلفة هو أمر محمود للأسباب المعروفة لدى الكافة المتعلقة بـ “إشراك الجميع… وتمثيل مختلف الأطياف… وإثراء النقاش….” وما إلى ذلك من العبارات والشعارات التي لو آمنّا بها حقاً لما تحدثنا عنها كثيراً لأنها كانت ستكون من المسلّمات والأبجديات التي لا يحتاج أحد للتذكير بها، المهم أن المحافظ واللبرالي واليساري والشيوعي والأخواني وغيرهم ممن دخلوا اللجنة وخرجوا منها دون عمليات تحويل مسار أو نحت مبادئ أو شفط أفكار؛ لا تثريب عليهم ولا هم يخجلون، حتى وإن فاوضوا وربما تنازلوا مرحلياً عن بعض مطالبهم مقابل تحقيق تقدم هنا وهناك بل لا ضير حتى إذا ظفروا بحقيبة وزارية في الحكومة القادمة التي تشكّلت في أذهان البعض، ما داموا محافظين على هويتهم ومبادئهم الفكرية.
المخجل حقّاً دخول بعض الدراويش من أتباع طريقة الشيخ عيّشني وعيش، بثوب اليساري أو اللبرالي أو التقدمي أو الحقوقي الديمقراطي والناشط المدني… ثم خلع هذا الثوب على عتبات اللجنة ولجانها الفرعية وارتداء الزيّ الموحد للمحافظين اليمينيين أملاً في “حقيبة” يخرج منها قلماً أحمر يشطب به ماضيه النضالي استعداداً لاستقبال التهاني بلقب صاحب المعالي.
في التاريخ والحاضر الأردني نماذج مشرّفة أثّرت في الموقع ولم تتأثر بالمنصب الذي طلبها ولم تطلبه، فسادته ولم يسُدها، فأصبغت عليه لوناً جديداً ومذاقاً فريدا، فرضته أصالتها، إذ ظَلّ هؤلاء  في ذاكرة الناس حتى بعد أن ارتحلوا عن المنصب، فمن ينسى رجل الدولة الكبير الراحل دولة وصفي التل أيقونة الوطنية ورمز القيادة والإدارة الحكومية الرصينة المتوازنة، ومن لا يستحضر على الدوام الأصيل العَصيّ على التحويل والتبديل دولة أحمد عبيدات الذي لم تتغير مواقفه من القضايا المبدئية ولا توجهاته –اتفقت معها أو اختلفت- سواءً حينما كان رئيساً للوزراء أو أثناء توليه  رئاسة المركز الوطني لحقوق الإنسان الذي وصفه أحد رؤساء الوزراء السابقين في عهده بأنه بات يشكل “حزب معارضة” لجرأة ما كان يصدره من تقارير، وكيف يمكن أن يغيب عن الذاكرة المتصالح مع نفسه الصادق في مواقفه دولة طاهر المصري الذي يرى كثيرون أن حكومته من الحكومات القليلة التي كانت متوازنةً ومتماسكة، ومعالي مروان المعشر الذي لم يتغير مؤيدوه ولا معارضوه حينما كان وزيراً وحتى اليوم، مما يعني أن الرجل لم يتقلّب ولم يتلوّن، والثابتة على مبادئها الصادقة توجان فيصل التي دخلت البرلمان بموقف مبدئي ثابت واعتزلته لذات وبذات الموقف، وغيرهم كثيرون ممن قد تختلف مع أفكارهم أو توجهاتهم لكنك لن تستطيع إلا أن تحترمهم وتجلّهم.
في لجنة تحديث منظومة الحياة السياسية عدد من الصادقين الصدوقين ممن يقولون كلمتهم كما يؤمنون بها وليس كما يريد غيرهم سماعها، وهؤلاء الأولى أن يصغي المعنيون إليهم لأنهم يمثلون الاختلاف المطلوب لإحداث تغيير فعلي، إذ من العبث أن يُترَك الفضاء لصيحات أو صمت الحالمين بحلف اليمين، ممن يرون في اللجنة مجرد طريق إلى الجنّة.