كتب : د. مهند العزة

“الساسة هم أؤلائك الذين كان لديهم قدراً ضئيلاً جداً من الأخلاق والأخلاقيات اللازمة لليبقوا محامون. Politicians were mostly people who’d had too little morals and ethics to stay lawyers”.
هذه المقولة للروائي والكاتب الأمريكي جورج مارتين تلخص العلاقة الإشكالية بين القانون والسياسة ومخاطر تحول بعض القانونيين إلى ساسة مُتَقونِنين.
في كل مرة تلوح فيها أزمة سياسية أو مؤسسية في الأفق، ينبري البعض ليدلي بدلوه القانوني الذي في حين يكون ممتلء، وفارغ في أحيان، ليملؤه بما ينبغي أن يقال حسب الموجة ومقتضى الحال. وهذا المسلك الأخير جدّ مروّع وخطير، لأنه يحول القانونيين من منارة ترشد إلى سبيل الحق والمشروعية إلى شلّة من الرفّائين والتَرزية تحيك من النصوص ثياباً تستر عوار الاختلالات القانونية عوضاً عن تصويبها.
منذ أن بدأت أحداث “قضية الفتنة” وتسارعت وتيرة تداعياتها السياسية والمجتمعية حتى إحالتها إلى القضاء وبدء جلسات المحاكمة فيها وصدور الحكم على المدانين عوض الله والشريف حسن؛ وبعض هؤلاء المُتَقونِنين يحاولون تفصيل ثوب يستر ما نعاه البعض من “عوار” على القضية، سواءً ما تعلق بالموقف المبدئي من محكمة أمن الدولة بوصفها من المحاكم العسكرية الاستثنائية التي تشكّل افتءاتاً على منظومة القضاء المدني، مروراً بتسريب التسجيلات الخاصة بأطراف القضية وتداولها على نطاق واسع بينما هي من البيّنات والقرائن التي تشكل العمود الفقري للدعوة، انتهاءً وابتداءً بالسؤال المحوري حول مشروعية تقديم الشريكان بالتحريض والمساعدة للمحاكمة واستبعاد الأمير حمزة الذي اشتركا لمصلحته من المثول أمام المحكمة حتى بوصفه شاهدا.
ابتداءً لا يمكن إنكار أن المحاكم الاستثنائية تمثل خروجاً على مبادئ الانتصاف والعدالة الجنائية المعيارية وتخالف أحكام الشرعة الدولية. أما تسريب التسجيلات، فهو أمر وإن كان غير محمود إلا أنه لا يسم الدليل بعدم المصداقية ولا يفتّ في عضد قوة الإثبات الخاصة به.
تبقى مسألة عدم اعتبار الأمير حمزة طرفاً مسؤولاً في القضية ورفض طلب الدفاع استدعائه للشهادة، حيث انبرى المُتَقونِنون لإيجاد سنداً دستورياً وقانونياً يبرر ذلك، وخاضوا في هذا المعترك بتكلّف وعناء شديدين، متخذين من قانون الأسرة المالكة الصادر سنة 1937 عكّازاً يقيل عثرة حججهم، زاعمين أنه ذو صبغة دستورية وصاحب اختصاص حصري في تسوية أي خلاف والتعامل مع أي فعل يرتكبه أحد أعضاء الأسرة المالكة.
هذا الزعم هو محض تضليل وتسويف، إذ نصت المادة (5) من هذا القانون على أنه: “تجري على اعضاء الأسرة المالكة أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الأخرى المعمول بها في شرق الأردن إلا ما نص على خلافه في هذا القانون”، هذا النص إذن أكثر من واضح في أن أعضاء الأسرة المالكة مخاطبون بأحكام التشريعات الوطنية النافذة وخاضعون لها، سواءً كانت جنائية أو مدنية أو تجارية أو إدارية… موضوعيةً كانت أو إجرائية، والاستثناء الوحيد الذي يرد على هذه القاعدة هو أن يكون القانون محل البحث قد نص على اختصاص قضائي محدد لمجلس الأسرة المشكل بموجب أحكامه، وهو ما فصّلته المادة (11)منه التي جعلت مسائل الأحوال الشخصية التي يكون أحد أطرافها عضواً من الأسرة المالكة منوطةً بهذا المجلس، مع وجود صلاحية للملك بإعادة الاختصاص بشأنها إلى المحاكم الشرعية صاحبة الولاية العامة.
المادة (13) من هذا القانون هي بيت القصيد التي يدندن حولها المُتَقونِنون، حيث تنص على أنه: “إذا ارتكب أحد أعضاء الأسرة المالكة ذكراً كان او أنثى أموراً خطيرة تخل بكرامة رتبته الملوكية فلسمو الأمير أن يصدر بعد أخذ رأي المجلس أمرا بإخراج ذلك العضو من الأسرة المالكة لعدم جدارته بالانتساب إليها. ويترتب على تنزيل احد أعضاء الأسرة المالكة من الذكور بالصورة المذكورة إخراج زوجته من الأسرة المالكة التي انتمت اليها بسبب زواجها منه إلا أن ذريته تبقى في الأسرة المالكة ما لم يؤمر بخلاف ذلك صراحة”.
هذه المادة تعالج ما يمكن توصيفه ب”العقوبات التأديبية” التي يجوز للملك توقيعها على أي من أعضاء الأسرة المالكة بعد استشارة المجلس في حال ارتكابه ما “يخل برتبته الملوكية”، فليس في هذا النص ما يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى انحسار اختصاص القضاء الجنائي أو المدني أو الإداري عن أي تصرف أو فعل يستوجب المساءلة مما قد يقع من أحد أعضاء الأسرة المالكة، إذ ينعقد فيها الاختصاص قولاً واحداً للقضاء المختص وتسري عليها أحكام القوانين ذات العلاقة.
قرار الملك عدم إقحام الأمير حمزة في مجريات المحاكمة هو قرار سياسي بامتياز فرضته مقتضيات منع مزيد من الاستقطاب وشقّ الصف الذي كان حتماً سيتأجج إذا تحولت المحاكمة إلى مضمار يتسابق فيه أطرافها ومؤيدوهم لاستعراض عضلات الحناجر وابتزاز واستنزاف المشاعر، لذلك كان الأجدى إظهار البعد المتعلق بالأمن الوطني والمحافظة على السلم الداخلي لهذا القرار بدلاً من إضاعة الوقت والجهد لتأطيره وتبريره قانونيّا، ثم العمل على مراجعة قانون الأسرة المالكة والتشريعات ذات الصلة لتنظيم وتحديد الصلاحيات القانونية والاختصاصات القضائية المتعلقة بمجلس الأسرة بعد إعادة تشكيله.
محاولة ستر العوار القانوني في أي قضية هو كشف لعورتها، لذلك فإن الأوجب هو تقويم الاعوجاج الذي يعتور التشريع وليس إعمال الرتق فيه والترقيع، فالوطن يحتاج إلى قانونيّين مخلصين –وهم كثر- وليس إلى خيّاطين مُتَقونِنين.