بقلم د. مهند العزة

لم تنفك الشعوب العربية والإسلامية تبحث عن بطل “حنجوري” ذو ذبذبات صوتية عالية أو حتى إهتزازي “Vibration”، يعيد للأمة المهزومة وشعوبها المأزومة أمجادها المزعومة، حيث تسلق على أكتاف هذه الشعوب المتعطشة لصوت يغني ترنيمة الماضي المجيد ويصدع ضد “الأعداء” بالتهديد والوعيد؛ عدد من القادة الموهوبين الذين استطاعوا بخطاباتهم “الحنجورية” النارية ومهاراتهم الاستعراضية الأكروباتية تولي سدّة الحكم واكتساب تأييد شعبي حتى خلال الهزائم وبعدها، تماماً كما حدث مع الرئيس عبد الناصر وحافظ الأسد وصدام حسين، وكما سيحدث مع كثيرين.
رجب طيب أردوغان، مدمّر الإرث العلماني للدولة التركية ورائد دسترة الإستبداد، هو أحد هؤلاء القادة الموهوبين الذين أعلنت شعوب الدول العربية والإسلامية بيعتها له خليفةً وأميراً للمؤمنين ليس لبرنامج طرحه ولا رؤية بلورها لا سمح الله، وإنما لأنه انتفض غاضباً في مؤتمر دافوس عام 2009 وغادر عائداً إلى تركيا على إثر نقاش حاد بينه وبين شمعون بيريس على خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لتستقبله الجماهير في المطار وحوله إستقبال السلاطين العثمانيين “الفاتحين”، ولتخرج مسيرات تأييده ومبايعته في أرجاء الدول العربية والإسلامية تتقدمها صوره وشعارات تبجيله وتأليهه.
سرعان ما تحولت البيعة إلى إيمان مطلق بسر هذا الرجل وكراماته مع ظهور أزمة سفينة مرمرة عام 2010، حينما قامت قوات الكيان الغاصب بمهاجمة السفينة في المياه الدولية لمنعها من الوصول إلى شواطئ غزة ضمن “أسطول الحرية” الذي كان يسعى لكسر الحصار عن القطاع، حيث قتلت قوات العدو 10 من الناشطين والناشطات على ظهر السفينة. ثم تحول الإيمان المطلق إلى تنصيب السلطان أردوغان آلهةً ترمز إلى حلم الخلافة الإسلامية؛ عندما أعلن عن إدانته لما رآه “انقلاباً عسكريا” أطاح بحكم جماعة الأخوان المسلمين في مصر عام 2013 وفتحت تركيا على إثره أبوابها مشرعةً للفارّين من أتباع الجماعة، ليقيموا فيها وتنطلق من أراضيها قنواتهم الإعلامية التي دأبت على مهاجمة النظام المصري.
بدورها بدأت مصر القيام بحركات مكايدة سياسية ضد تركيا من خلال تقديم الدعم بالوكالة عن دول خليجية لخليفة حفتر في ليبيا التي تتواجد بها قوات تركية لمساندة حكومة الوفاق. ثم قامت مصر بتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع اليونان -العدو التقليدي لتركيا- تم بموجبها تحديد وتقسيم المناطق الاقتصادية الخالصة الغنية بالغاز والنفط بين البلدين في شرق المتوسط، حيث رأت تركيا في هذه الاتفاقية مساساً مباشراً بمصالحها، ورأى البعض فيها تنازلاً من جانب مصر عن مناطق شاسعة من حصتها المائية الغنية بالثروات النفطية لليونان نكايةً بتركيا. لم يخلُ الأمر أيضاً من نغزة هنا ومدّ لسان هناك من خلال استقبال الرئيس السيسي مثلاً وزير خارجية أرمينيا أثناء النزاع المسلح الأخير بين أذربيجان المدعومة تركياً وأرمينيا على إقليم ناغورنو كاراباخ.
في غمرة هذا الصراع المحتدم بين البلدين، كان الإعلام المصري في وصلة ردح مستمرة ضد أردوغان، بلغت أحياناً حداً هزلياً وغير أخلاقي كما حدث في إحتفاء وإحتفال القنوات المصرية بمحاولة الانقلاب الدموية التي أحبطت في تركيا سنة 2016، هذا بخلاف الألفاظ النابية والتحريض العلني على القتل الذي مارسه عدد من الإعلاميين المصريين في حملتهم ضد تركيا. في المقابل، كانت قنوات الأخوان المسلمين ماضيةً في مهاجمة النظام المصري من تركيا وتناول رموزه بالنقد والسب والتجريح… إلى أن إستيقظ المصريون والأتراك صباح يوم على أنباء عن بوادر تقارب مصري تركي فرضته لعبة المصالح المتغيرة التي لا تعرف الثبات على مبدأ.
كان أول ما طرحه المفاوضوون المصريون على الطاولة من شروط للمضي في مساعي التقارب؛ هو ضرورة قيام تركيا بإسكات القنوات المعادية للنظام الحاكم في مصر ومنع الإعلاميين المصريين المناوئيين له مثل معتز مطر ومحمد ناصر وحمزة زوبع والفنان هشام عبد الله من الظهور على الفضائيات أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي لم تتردد تركيا في الاستجابة له، مستثمرةً هذه السطحية السياسية من جانب المفاوض المصري الذي قدّم وقف القنوات الإعلامية المزعجة له على قضايا تفاوضية إستراتيجية حاسمة مثل الوضع في ليبيا والبحر المتوسط وكسب تأييد تركيا في قضية سد النهضة وغيرها.
الخليفة السلطان رجب طيب أردوغان؛ عند أول منعطف، قام بإصباغ صفة المشروعية على نظام كان بالأمس القريب يصفه بـ”الإنقلابي” وأسكت أصوات كل معارض يُذَّكِر بهذه الصفة، ثم أنه وهذا الأهم، باع بيعة من بايعوه من الجماهير التي قدّست سرّه ورفعت مقامه وحملت عرشه على أكتافها المثقلة بخذلان القافزين عليها على رأس كل عقد من الزمان، لتخيب آمالها وتعود إلى كهفها لتغط في سباتها إلى أن توقظها مرةً أخرى وليست أخيرة صرخة البطل الجديد الذي سيخلف السلطان أردوغان.