مرايا – كتب : حمزة التلاوي 

فجأة؛ صحوت، فوجدت نفسي أسير في الشارع هائمًا وحدي، تسللت من طريقٍ فرعّي، لأرى ما أستطيع مشاهدته في هذا المشهد الخالي، لا أحد سواي، مشيت مثل سارق نفذ بريشه للتو، وبعد أن أيقنت أن لا أحد غيري أشعلت سيجارة لأشعر نفسي أن الأمر طبيعي، لكني سمعت صوت قطة شرسة يبدو أن العصبية تسيطر عليها، وإذ بها في بيت بابه مفتوح، الفضول جعلني أسترق النظر، فوجدت أن البيت فارغ، دنوت من الباب، فإذا بقطط أخرى داخل البيت المظلم إلا من ضوء الشمس الخافت.
كل القطط كانت تشخر، منذّرة إياني أن أبتعد، فخرجت على الفور، لكن الفضول جرّني إلا بيت أخر لأُشاهد نفس المشهد وهكذا في جميع البيوت التي مررت بجانبها، نفس المشهد؛ قطط غاضبة وتشخر.
شعرت بالخوف فرحت أركض من شارع إلى شارع على أمل أني سوف ألاقي بشرًا في إحدى الأحياء والشوارع الأخرى، ومن شدة الخوف قررت الاختباء في أحد المنازل علني أجد من أكلّمه لكنه كان فارغًا أيضًا، إنتظرت لحظة حتى سمعت صوت إمرأة تصرخ فخرجت على الفور أبحث عنها، دخلتُ بيتًا بيتًا لأجدها، ولكن عبثًا فعلت، فقد كانت البيوت فارغة تمامًا، إلا من القطط، وفي ناحية شبه منعزلة وجدتُ بيتًا جميلًا وفخمًا أغرّاني بالدخول، فدخلت، كان كل شيء أنيقًا وهادئًا، لا يوجد أحد سوى قط نظيف وكبير في السن، شعره أبيضٌ جدًا، كثيف مثل دب، عيناه واسعتان يملؤها الكحل الأسود، وحاجبيه كأن رسام أبدع خطهما، نزل على الدرج بهدوء مثل زعيم عصابة، عندما وصل بهو البيت الكبير نظر إليّ نظرة متعجرف، ثم نظر خلفه ليأتي مجموعة قطط أخرى كأنها كانت تحرس شخصه، إصطّفوا جانبه بانتظار إصدار أمر منه بالهجوم، وما أن رفع ذيله بشكل مستقيم حتى هجمت كلها علّي مرةً واحدة مثل قطيع نمور، وأنا من شدة المفاجأة هربت إلى الأعلى ناسيًا أن الباب خلفي، لكن الحظ كان إلى جانبي لأنني استطعت الاختباء في غرفة عالية، وما أن التقطت أنفاسي حتى سمعت زئير قطة في الزاوية، في هذه اللحظة تسمّرت واقشعر بدني حتى راودتني فكرة القفز من النافذة لولا أني اكتشفت أن القطة لا تستطيع المشي لأنها بلا أرجل، قفزت قفزة رهيبة من النافذة من هول المشهد، وإذا بي في حديقة المنزل الكبير، أحسست بألم في قدمي لكني مضيت قدمًا في الهروب.
ركضتُ بعيدًا، وقطعتُ مسافات طويلة، وعندما أدركت أني صرتُ في مدينة أخرى، توقّفتُ للراحة، لكن هذه المدينة أيضًا خالية من الناس، أين ذهب الجميع، حتى لو اندلعت حربٌ ما وماتوا جميعًا أين هي الجثث، هل يعقل أنهم هربوا نحو الجبال خوفًا من الوباء القادم من بلاد بعيدة، يُقال أن هذا الوباء سيبتلع نصف سكان هذه المعمورة التي يسكنها مليارات البشر.
الجبال-قلتُ في نفسي- لا بد أنهم هرعوا هناك، سألحق بهم، ولكن يبدو أن الأمر قد فات، فالقطط هنا أيضًا وبكثرة، هذه المرة لا مناص من مواجهتهم، لقد استعمروا كل الأمكنة.
أثناء حيرتي، تفاجئت برجل عجوز، وهو بدوره أيضًا شعر بالمفاجأة، كأني كائن غريب حطّ على الأرض، أشار لي بيده أن أحضر إليه، إنه رجل قصير، لحيته كثيفةٌ بيضاء، وشعره أشعث، ويلبس لباسًا بسيطًا،حدّق بي طويلًا، وتفحّص وجهي جيدًا، قدّم لي الماء والطعام وقال:
– لا بد أنك مررت بأوقات صعبة، ويبدو عليكَ التعب، هل طاردكَ أحد؟
– إنني اهرب من القطط الموجودة في كل مكان، وكأنها استعمرت الأرض؟
– نعم، هي كذلك، لكنها لا تقوم بإيذاء أحد، ربما اعتقدت الققط أنك خطر عليها.
– ولكن، أين الجميع، وماذا تفعل أنتَ هنا؟
– لقد خرج الجميع بعد أن ظنّوا أن القطط إستولت على المدينة، واعتقدوا أنها تريد اقتحام بيوتها، أما أنا فلي تاريخٌ طويل مع القطط، فجميعها تعرفني، وأنا أيضًا أفهمها، لذلك لم أهرب أو أخرج من المدينة. لم أكن أعرف أن الخوف جزء أصيل من التركيبة الإنسانية الفطرية، عجبي!
– وهل تعرف أين ذهبوا؟
– وهل تريد أن تلحق بهم؟
– نعم.
-لا أنصحك، إنهم يسكنون الخيام البائسة، والجوع يفتك بهم، إذا أردت اللحاق بهم، إنهم هناك خلف تلك التلال، عليك أن تسير مسافة يوم واحد على مشيًا على الأقدام، سأعطيك القليل من الطعام والشراب، ولا تخف من القطط التي قد تراها أثناء مسيرك، فقط حافظ على هدوئك، لا تحدّق بهم، ولا تهرب، لن يشكلوا خطرًا عليك، حتى لو كانوا مجموعة كبيرة.
– شكرًا لك.
إذهب الآن، وانصح الجميع بالرجوع إلى ديارهم، أخبرهم أن القطط لا تريد إخافة أحد، ولا تريد أن تستولي على المدينة، كل ما في الأمر أنها لم تكن تجد شيئًا تأكله من مخلفاتهم ولا آثار للطعام فيها، القطط لا تعلم أن الإنسان يجوع أيضًا ولا يجد قوت يومه، ولن تستطيع هذه القطط أن تصدّق أن الإنسان قد يسبب المجاعات لنفسه ولنسله من البشر.