د. مهند العزة

حينما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان أحاول عادةً النأي بنفسي عن العاطفة والمشاعر الجارفة التي في كثير من الأحيان تحيد بالحق عن سيرته ومسيرته من التزام واجب النفاذ على الدولة اتجاه مواطنيها وقيمة ينبغي احترامها من الكافة، إلى فضل ومنّة ومضمار لإظهار السبق لفعل الخيرات والتوق لكسب الفضل والحسنات.

لم أتمكن من تحييد عاطفتي والسيطرة عليها وأنا ألاعب ابني أمير قبل النوم وأشاهد معه مقطع فيديو عن الكواكب وحركتها وسيناريوهات مختلفة مفترضة عن حال الأرض لو كان بعضها غير موجود أو على مسافة أبعد أو أقرب من كوكبنا الأزرق، حيث ضغط أمير فجأةً على زر توقيف التشغيل وسألني بهدوء ملؤه الفضول: “بابا؟ لو كان ممكن أن تتمنى أمنيةً واحدة، شو بتتمنى غير أي اشي له دخل فينا؟”. الاستثناء الذي وضعه أمير “غير أي اشي له دخل فينا” جاء لأنه يذكر أنني كلما سألني هذا السؤال أتمنى أن يعيش هو وأخته ووالدتهما سعداء في صحة وعافية وسلام وعدالة. صمت قليلاً وقلت له: “بس أمنية واحدة؟”، رد وهو يغالب ضحكة خفيفة: “آه يا بابا، واحدة، عشان هاد الجني عن جد بخيل”. فقلت: “ممكن أتمنى أنه يصير معنا مصاري تكفينا عشان نعيش بشكل كويس وتتعلموا في أحسن الجامعات”. صمت طويلا، ثم وضع يده على ذراعي المكشوف وهو يعبث بعلامة تركتها إبرة الجرعة الثانية من مطعوم كورونا الذي كنت قد أخذتها في الصباح، ثم قال وكأني به يستجمع جرأته ويغالب خجلاً ما: “بابا؟ كنت متخيل أنك رايح تتمنى إنو نظرك يرجع إلك وتصير تشوف”.

على الرغم من أن أمير سيبلغ العاشرة من عمره المديد إن شاء الله في شهر أيلول القادم، إلا أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها صراحةً عن إعاقتي البصرية وذلك لأنني عودته وشقيقته ماريا أنها مسألة أكثر من عادية واختلاف طبيعي بيننا، وكثيراً ما تكون عنصر مداعبة ومزاح في حواراتنا، ففي مناسبات عدة أقول له مثلا: “في بقعة على بلوزتك… شو هاد اللي على وجهك… أعطيني أقرأ هاي القصة معك…” فيضحك دون أن يعلق، إلا أنه لأول مرة يتحدث بنبرة جادة عن مشاعره اتجاه كوني من المكفوفين. سألته مغالباً مشاعر مختلطة اجتاحتني ومحاولاً إضفاء شيء من المرح على الحوار لكي لا يترك عنده انطباع إقران الإعاقة والاختلاف بالحزن: “إنتَ زعلان يا بابا عشان أنا ما بشوف؟”، تعودت معه على حركة لطيفة علمني إياها وهو صغير حينما أسأله سؤالاً إجابته نعم أو لا بأن أضع يدي على رأسه ويمئ به فأعرف الجواب من حركته، فهز رأسه أعلى وأسفل في إشارة أنه زعلان.

بجهد أكبر كتمت مزيد من المشاعر الجياشة التي شعرت أنها تسير مثل دائرة كهربائية في صدري وتتصاعد في مخترقةً حنجرتي لتدور مثل دوامات البحر في رأسي، وسألته وفي صوتي ضحكة مصطنعة: “ليش زعلان؟ ليش يا بابا؟”. صمت برهةً واستجمع كلماته وبالهدوء ذاته قال: “يعني، لو ترجع تشوف بصير كل شيء أسهل إلك”. أدرت وجهي إلى الجهة اليمنى بعيداً عن عينيه حتى لا يرى لمعان دموع التأثر بذكائه ومنطقه وفطرته وتلقائيته، ثم ربّت على كتفه وأنا أقول: “لا يا بابا، هذا اشي طبيعي، وأنا زي ما أنتَ شايف تعلمت وبشتغل وعندي أسرة حلوة”.

لست متأكداً إن كان جوابي قد أقنعه أم لا، لكنّ فضولي في سبر أغوار ما يجول في خاطره جعلني أرمي الكرة في ملعبه فسألته بنبرة من وجد ضالته: “طيّب، لو الجني البخيل طلب منك أمنية واحدة، شو بتتمنى؟”. بسرعة غير متوقعة أجاب: “أن لا يموت”. بالسرعة نفسها سألته: “مين، أنتَ يعني؟”، انتابني شعور بأننا نلعب “بينج بونج” حينما أجاب فورا: “هممم… لا، الحقيقة أنت، عشان أنا بحبك كتير وعشان أنتَ أكبر، فيعني أنا ما بحتاج هاد الشي”.

أمير عرف بالفطرة والممارسة كيف يقبل التنوع والاختلاف ويحترمه ويعلي من قيمته، ونطق لسانه بما وقر في قلبه الصغير بحجمه الكبير بعطائه من قيم المحبة والإيثار، فهل ما يزال لدينا أمل أن نصلح جيلاً تكونت ثقافته وتشكل وجدانه وتراكمت فيه قيم مشوهة عن كل مختلف ومخالف، أم أن الاستثمار في جيل ناشئ هو الأفضل والأكمل والأجمل.