مرايا – كتب : د. مهند العزة – بينما يحبس العالم أنفاسه مترقباً رحيل سنة العجائب والمصائب دون مفاجئات اللحظات الختامية، أبى عبيد النزعات الاستئصالية والتوجهات الإقصائية ممن عشقت وجوههم غبار الكتب الصفراء التي تحمل بين دفتيها الروايات والحكايات التي تؤسس وترسخ رفض الآخر وبغضه وإهانته، إلّا أن يطلوا برؤوسهم المتحجرة كما في كل نهاية عام ليحذّروا من عاقبة من يهنئ بعيد الميلاد المجيد أو حلول العام الجديد.
معرفة المحتوى الأصولي للفقه الذي يعاقره هؤلاء الاستئصاليون يفسر تجردهم من الحياء العام واستمرائهم تكفير أو تأثيم من يتبادل التهاني مع من يخالفهم في الدين والعقيدة، إذ يكفي قراءة كتاب ابن القيم “أحكام أهل الذمة” الذي يشكل وفقاً للتشريعات الجنائية جسم جريمة لحزمة من الأفعال الجرمية من بينها: ازدراء الأديان وبث الفتنة والفرقة وتقويض النسيج الاجتماعي وجريمة الكراهية والسب والقذف…. إذ يقول ابن القيم في استعراضه لمسألة تهنئة غير المسلمين وبصفة خاصة المسيحيين بأعيادهم ومشاركتهم فرحتهم بها: “وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنيهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو: تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنـزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمـاً عند الله، وأشد مقتـاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه”. ويؤكد محمد بن صالح العثيمين أحد علماء السعودية ذائعي السيط وأحد شيوخ الوهابية الذين أحيوا وغذوا الفقه الاستئصالي وتسببوا في انخراط العديد من الشباب في التنظيمات الإرهابية في أفغانستان والقاعدة وداعش وغيرها؛ على وجوب ازدراء غير المسلم وتحقيره وإنكار وجوده مسترشداً بمعلّمه ابن القيم فيقول مجيباً أحد السائلين عن “جواز التهنئة بالكريسماس”: “ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم، سواء فعله مجاملة أو توددًا أو حياء أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم”.
لا غرابة والحالة هذه أن يروج عدد غير قليل من المسلمين الذين لا يدركون أنهم يمثلون التطرف الفكري في أبشع صوره؛ قبل نهاية هذه السنة وكل عام منشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية –تحذر من تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد المجيد والعام الجديد، مستحضرين هذه الأدبيات الإقصائية ليقيموها حجّةً على كل من يرغب في التعايش والعيش وفق الفطرة والسجية الإنسانية.
إذا كان شيخ الأزهر وغيره من الدعاة و”العلماء” في دور ودوائر الإفتاء في الدول الأسلامية يقولون أن تهنئة المسيحيين ومشاركتهم فرحتهم في أعيادهم جائزة، فلماذا يصرون على إعادة طباعة كل ما ورد في كتاب “أحكام أهل الذمة” وغيره من ألوف المصنّفات التي تضم بين دفتيها روايات وأحكام تنطوي على أبشع أنواع التحريض على الكراهية والاستئصال لمجرد الاختلاف في العقيدة؟ لماذا لا يعمل هؤلاء المشايخ الذين يحاولون تطوير نسخة خفيفة “light” من الدين التبرؤ من كل ما من شأنه ازدراء الآخر وإقصائه؟
المشايخ من مدّعي “الاعتدال والتعايش” مطالبون فوراً – إن كانوا صادقين- بمراجعة المصنّفات الفقهية والعقائدية كافةً وتنقيتها من أحكام وفتاوى وحكايا وقصص وروايات الفكر الاستئصالي واستبعاده حتى ولو لم يبقى من هذه المصنفات سوى الغلاف.
2020 أصبحت سنةً ماضية بينما سُنّة اتباع التقاليد وتقديس سادة الفكر الأصولي من العبيد ماضية فلن تجد لها تبديلاً ولن تجد لها تحويلا، إلا إذا صدقت وخلصت النوايا لإحداث تغيير جذري يؤسس لحركة تنوير تزيل ظلمة تراكمت لقرون وما تزال.