مرايا –
يأتي خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ في لحظة بالغة الحساسية إقليمياً ودولياً، حاملاً رسائل واضحة ومحكمة تستهدف التأثير على السياسة الأوروبية تجاه القضايا المحورية، لا سيما الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وفي ما يلي تحليل لأبرز المضامين والرسائل التي حملها الخطاب:
أولا: الرسائل الرئيسية والمضامين:
1. النداء الملح لإنقاذ حل الدولتين:
* المضمون: جعل الملك من هذه النقطة محور الخطاب، محذراً من «اختفاء» حل الدولتين كخيار قابل للتطبيق بسبب الاستيطان الإسرائيلي المتسارع والإجراءات الأحادية.
* الرسالة: الضغط على الاتحاد الأوروبي لتحويل دعمه اللفظي لحل الدولتين إلى إجراءات عملية ملموسة وفورية لمنع انهيار هذا الحل. ووصفه بـ «الطريق الوحيد» يؤكد أنه لا بديل مقبولا.
* السياق: استمرار التوسع الاستيطاني وتصاعد العنف في الضفة الغربية، وضعف الآمال في عملية سياسية فاعلة.
2. غزة: من الإغاثة إلى إعادة الإعمار والتنمية المستدامة:
* المضمون: شدد الملك على أن الجهود الحالية يجب أن تتجاوز الإغاثة الطارئة لتركز على إعادة الإعمار الشامل والتنمية المستدامة. وانتقد بشدة تقليص تمويل «الأونروا».
* رسالة ضمنية: ربط استقرار غزة باستقرار المنطقة ككل، وحث أوروبا على الوفاء بتعهداتها المالية (مثل مؤتمر عمان 2025) وضمان وصول المساعدات دون عوائق، والتأكيد على أن مهاجمة تمويل «الأونروا» هي مهاجمة لشبكة الأمان الإنساني والاجتماعي الأساسية.
* الهدف: منع انفجار الأوضاع في غزة مجدداً ومعالجة الأسباب الجذرية للأزمة.
3. الأردن كشريك استراتيجي وحاجز ضد الفوضى:
* المضمون: عرض الأردن ليس فقط كمتلقٍ للمساعدات، بل كشريك فاعل في حفظ الاستقرار الإقليمي ومحاربة التطرف ومعالجة أزمات اللاجئين (السوريين والفلسطينيين).
* الرسالة: تذكير أوروبا بالمصالح المشتركة في استقرار الأردن، فاستقراره استقرار لجنوب أوروبا. وهذا خطاب يؤكد ضرورة الدعم المستمر للأردن كاستثمار في الأمن الأوروبي.
* السياق: التحديات الاقتصادية الهائلة التي يواجهها الأردن بسبب جائحة اللاجئين والاضطرابات الإقليمية.
4. رفض النزوح أو التوطين كحلول:
* المضمون: أكد الملك مجدداً وبقوة رفض الأردن أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية عبر نزوح الفلسطينيين من الضفة الغربية أو غزة، أو التوطين الدائم للاجئين في الدول المضيفة (بما فيها الأردن).
* الرسالة: تحذير صريح لأوروبا وإسرائيل من تبني سياسات أو دعم خطط تؤدي إلى هذا السيناريو الكارثي، الذي سيدمر السلام ويشعل المنطقة.
* الهدف: إغلاق الباب أمام أي تصورات أو خطط قد تروج لها بعض الأطراف الإسرائيلية أو الدولية لحل «بديل» يقوم على النزوح.
5. القدس والوصاية الهاشمية:
* المضمون: أكد الملك على الدور التاريخي والشرعي للأردن في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشرقية تحت الوصاية الهاشمية.
* الرسالة: تذكير أوروبا بأهمية الحفاظ على الوضع القائم في القدس ومحاربة أي محاولات لتغيير طابعها أو تهويدها، مع التأكيد على شرعية الدور الأردني كضامن لهذا الوضع.
* السياق: استمرار الممارسات الإسرائيلية التي تستهدف تغيير هوية القدس وطابعها.
6. الشرعية الدولية كمرجعية وحيدة:
* المضمون: دعا إلى الالتزام الصارم بقرارات الشرعية الدولية، خاصة تلك المتعلقة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
* الرسالة: نزع الشرعية عن الإجراءات الإسرائيلية الأحادية (كالاستيطان) التي تنتهك القانون الدولي، وتذكير أوروبا بمسؤوليتها في تطبيق هذه القرارات والدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد الشرعية.
ثانيا: السياق والاستهداف:
1. الجمهور المستهدف (البرلمان الأوروبي): اختيار هذه المنصة قرار حكيم. البرلمان الأوروبي غالباً ما يكون أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية وأكثر انتقاداً لسياسات إسرائيل من بعض حكومات الدول الأعضاء. الخطاب موجه إلى الرأي العام الأوروبي والقوى السياسية المؤثرة داخل المؤسسة التشريعية للاتحاد.
2. التوقيت (بعد نحو سنة و8 أشهر من حرب غزة): يأتي الخطاب في مرحلة حرجة حيث تتلاشى الأضواء الإعلامية عن غزة رغم استمرار الكارثة الإنسانية وغياب حل سياسي، ويزداد التوسع الاستيطاني. وهو توقيت يهدف لإبقاء القضية حية على الأجندة الأوروبية.
3. الربط بين الأمن الأوروبي والأمن الإقليمي: استخدم الملك ببراعة «المصلحة الأوروبية» لدفع أجندة الأردن، وربط عدم حل القضية الفلسطينية باستمرار موجات الهجرة وعدم الاستقرار وتهديد المصالح الأوروبية، وهي تلقى آذاناً صاغية في أوروبا.
4. التأكيد على الدور الإقليمي للأردن: الخطاب يؤكد مكانة الأردن كفاعل رئيسي لا غنى عنه في أي حل إقليمي، ويدفع بأجندته الخاصة (الوصاية، رفض التوطين، الدعم الاقتصادي) تحت مظلة المصالح الأوروبية المشتركة.
ثالثا: التوقعات والتأثير المحتمل:
* دبلوماسيًا: يهدف الخطاب لتحفيز دبلوماسية أوروبية أكثر فاعلية وضغطًا على إسرائيل لوقف الاستيطان والعودة للمفاوضات الجادة، ولضمان تدفق المساعدات لغزة و»الأونروا».
* ماليًا: تعزيز التزام الدول الأوروبية بتقديم الدعم المالي الموعود لإعادة إعمار غزة ودعم «الأونروا» والميزانية الأردنية.
* سياسيًا داخليًا: يعزز صورة الملك كمدافع شرس عن القضية الفلسطينية ومصالح الأردن أمام العالم.
* تحديات التنفيذ: فعالية الخطاب تعتمد على قدرة الأردن وأوروبا على تحويل هذه الرسائل إلى ضغط سياسي ملموس على إسرائيل، وعلى مواجهة النفوذ الإسرائيلي القوي داخل بعض العواصم الأوروبية، وعلى توحيد الموقف الأوروبي الذي غالباً ما يكون متباينًا.
الخلاصة:
خطاب الملك عبدالله الثاني كان خطاباً استراتيجياً واضحاً وحازماً، أعد بعناية لاستثمار المنصة الأوروبية الهامة في لحظة حرجة. ركز الخطاب على إنقاذ حل الدولتين كخيار أخير، وربط استقرار الأردن واستقرار المنطقة بأمن أوروبا، وهاجم السياسات التي تهدد بتفجير الأوضاع (مثل تجفيف تمويل الأونروا والاستيطان). نجح الخطاب في وضع القضية الفلسطينية وتحديات المنطقة أمام صناع القرار الأوروبيين بطريقة مباشرة تبرز المصالح المشتركة وتتطلب إجراءً عاجلاً. ووضع الخطاب رسائل محكمة أمام السياسة الأوروبية الفعلية في الفترة القادمة.