مرايا –

مشاهد علقت في الذاكرة مع إصرار المئات ممن كانوا عالقين على معبر رفح على العودة، وما إن فتح المعبر منذ اليوم الأول للهدنة، حتى سارع الغزيون للعودة إلى وطنهم رغم ما فيه من دمار وحرب سعيرها تجاوز الحدود.

هؤلاء العائدون، كان لديهم فرصة البقاء خارج القطاع، بيد أن تعلقهم وإصرارهم على العودة للجذور والوطن والبيت، الذي لم يعد قائماً ربما، ما هو إلا دلالة على التعلق الأزلي بالوطن، ورفض أي مقترح للتهجير، بل إن ما أثار دهشة العالم هو “العودة للمنزل والجلوس على ركامه وتحت جدرانه المائلة”.

 

“ما رح نطلع من وطنا إلا إلى الجنة..، ثابتين في بيوتنا ولو فجروها مرات ومرات من وطنا مش خارجين..، لن نعيد النكبة ولا النكسة ولو متنا على دمار بيوتنا..، إحنا مثل الجبال راسخين في وطنا وما نخرج منها للأبد”. هذه بعض العبارات التي كررها سكان غزة، الذين يرفضون وبكل حزم فكرة التهجير والابتعاد عن الوطن، في الوقت الذي تعد نسبة كبيرة منهم في الأصل مهجرين من مدنهم وقراهم في فلسطين واستقروا في غزة، وهذا ما يدفعهم إلى رفض فكرة الهجرة مجدداً.

ومن الصور التي رسخت لدى العالم أن “أهل غزة” متمسكون بوطنهم ولا يوجد مكان لمصطلح التهجير مرة أخرى في حياتهم، إنما “رفع علامة النصر دائما”، مشددين على أن بقاءهم في وطنهم رغم كل البيانات والخطابات والدعوات العدائية التي تطالب بالتهجير تحوم من حولهم، إلا أن ذلك لا يعني لهم شيئاً بل يزيدهم ثباتاً في وطنهم.

عدد من المواطنين في غزة عادوا منذ اليوم الأول للهدنة، محاولين استصلاح أراضيهم الزراعية، وآخرون بحثوا عن أغنامهم يرعون فيها في بضع بقاع من الأراضي الصالحة للبقاء، وكأنهم يقولون للعدو الذي يتربص بهم من بعيد “نحن باقون إلى يوم الدين، نزرع ونجني ثمار التمسك بالوطن ونشتم رائحة الميرمية على حدود القطاع”.

“راح نبني واحد أحلى وأكبر من بيتنا يا ماما”، تلك كلمات تواسي فيها إحدى الأمهات الغزيات طفلتها التي كانت تبكي على أطلال بيتهم في أحد الأبراج السكنية التي تعرضت للهدم عن بكرة أبيها، الأم تؤكد لابنتها أنهم سيبقون في وطنهم ولن يتركوه ولن يبحثوا عن بقعة أخرى في العالم للاستقرار، بل التأكيد على إعادة بناء بيتهم في المكان ذاته مرة أخرى، والبقاء في الوطن إلى الأزل.

وعلى الرغم من التحذيرات التي وجهها الاحتلال للنازحين من الشمال للجنوب من العودة إلى مساكنهم خلال الهدنة، إلا أن المئات حاولوا خرق هذا التنبيه والعودة إلى بيوتهم مرة أخرى، رغم أنها تعرضت للهدم بشكل كامل، كونها كانت منطقة اشتباك بين الاحتلال والمقاومة خلال فترة الحرب البرية، عدا عن القصف المدفعي المستمر.

هذا الإصرار على العودة إلى أكثر مناطق القتال في غزة، وتعرض البعض لإطلاق النار، دلالة على التشبث بالوطن، فهو ليس فقط بيتا وجدرانا وحديقة صغيرة، بل أرواح تعلقت بالمكان وتجذرت في أعماق غزة سواء أكانوا من سكانها أو النازحين إليها سابقاً، لذلك الوطن في نظرهم هو الروح.

سكان غزة الذين يتراوح عددهم مليوني مواطن، يؤكدون ثباتهم في وطنهم، “لو قتلوا منا الآلاف نحن ثابتون في بيوتنا، سوف نزيل الركام بأيدينا ونعيد بناءها في المكان ذاته”، يقول أحد الغزبين الذي جلس مع أبنائه تحت ركام بيته وثبات بعض جدرانه، يشغلون النار للدفء والطبخ ويتحدثون عن القادم الأجمل في غزة. 

الوطن هو مكون اجتماعي روحاني، يفيض بالمشاعر وحالة لا يمكن فصلها عن حياة الإنسان، لذا يرى اختصاصي علم الاجتماع حسين خزاعي، أن أهالي غزة الذين يفتخرون بوطنهم وتاريخهم وتراثهم، أثبتوا صلابتهم وقوتهم.

وغزة، عبر التاريخ، عمرها ما يقارب 5 آلاف سنة، وهي مدينة ساحلية، وأهل الساحل معروف عنهم أنهم شعوب “طيبة وودودة ومشهود لهم بالشجاعة والمروءة كذلك”.

لذا، يؤكد خزاعي أن مكانة الأرض لها علاقة قوية جداً بين الإنسان ووطنه، وأهل غزة نفسهم شاهدوا ما حدث لغيرهم ممن تركوا وطنهم، وهاجروا قسراً، في السابق، وعانوا الكثير من الأوجاع النفسية والمعنوية خلال هجرتهم، وهذا قد يكون سبباً في ثباتهم وإصرارهم على البقاء مهما طال بلادهم من آثار حرب مدمرة.

ووفق خزاعي، أهل غزة صامدون ويرفضون ترك بلادهم، وهذا خلق في نفوسهم على مدار سنوات طويلة ثقافة المقاومة والتحدي، واضطروا في السابق إلى ترك مدنهم وقراهم، ولن يكرروا هذه التجربة القاسية مهما كانت الظروف.

و”فلسطين بلادهم المحتلة”، وغزة لم يفرطوا في تاريخها ومكانتها، وتحوي الكثير من الأماكن العظيمة ولم يتركوها لأجل عدو، وبحسب خزاعي “الإنسان ربما يهاجر لسبب محدد ولديه الحرية في العودة إلى وطنه متى شاء، ولكن أن يُهجر بشكل مطلق، لن نجد إنسانا يقبل بذلك مهما كان حاله”.