مرايا – ديفيد كيلكولين* – (فورين أفيرز) 2023/10/23

تشكل مدن غزة، وخان يونس، ورفح المكتظة بسكانها متاهات من المباني متعددة الطوابق المبنية من الخرسانة والطوب، والمنشأة في أغلبها بطريقة سيئة. وهي متهالكة وعرضة للانهيار بسبب القصف المدفعي أو الغارات الجوية. وهو أمر بالغ الخطورة على السكان المدنيين المحاصرين وعلى الجنود المهاجمين على حد سواء. يمكن أن تحد الأضرار التي يلحقها القصف بالمباني الحضرية من قدرة القوات المهاجمة على المناورة، حيث تتسبب في إغلاق الشوارع بالركام وتوجيه القوات المتقدمة إلى الكمائن المعدة للإيقاع بها.

 يسعى القادة إلى الاستفادة القصوى من تأثير الأسلحة المشتركة لخلق وضع يدفع أفراد العدو إلى تعريض أنفسهم لأحد التهديدات، مثل طائرة مسيرة أو ضربة مدفعية من الأعلى، بينما يكونون بصدد السعي إلى تجنب تهديد آخر، مثل دبابة أو وحدة مشاة تتحرك على الأرض. لكن قول هذه الأشياء أسهل كثيرا من فعلها.

الآن، من المرجح أن يتحول ما بدأ بهجوم على المدنيين الإسرائيليين، والذي استغل عنصري الصدمة والمفاجأة، إلى معركة شاقة وبطيئة، ومكلفة ومثيرة للجدل، تخاض في الجو والبر والبحر والفضاء السيبراني.

 الجيش الإسرائيلي قد زعموا أن “حماس” تمنع المدنيين من مغادرة منازلهم. وحتى عندما يحاول المدنيون المغادرة، يجعل الدمار والفوضى الناجمان عن القتال في المناطق الحضرية التنقل خطيراً للغاية ويجعلان من الصعب عليهم النجاح في ذلك، وهو ما يدفع الكثيرين إلى الاحتماء في مكان آمن حيثما يوجدون. وعلى الرغم من تحول النهج العسكري من الاستهداف الدقيق للأهداف إلى التدمير الهائل، يملك الجيش الإسرائيلي سجلاً في السعي إلى تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، بما في ذلك من خلال التحذير قبل القصف باستخدام ما يسمى “طرق السطح”، وهي طريقة تقوم على إلقاء مقذوف ضعيف الانفجار أو غير متفجر على سطح المنزل المستهدف بالقصف لحث المدنيين على المغادرة قبل تنفيذ الضربة الرئيسية. وهكذا، عند شن هجوم بري واسع النطاق، يمكن تصور أن يقوم الجيش الإسرائيلي بإرسال الفرق الإنسانية والمدنية لإخلاء المدنيين وفحص هوياتهم وانتمائهم ودعمهم بحيث يتمكن من تحديد وفصل مقاتلي العدو الذين قد يسعون إلى الاختفاء بين النازحين والمشردين. لكن مثل هذه الجهود لا يمكن أن تحقق أكثر من نتائج محدودة، وكثيراً ما تؤدي الفوضى وانعدام اليقين في هذه المعارك إلى ارتكاب أخطاء تودي بحياة المدنيين.

تشكل مدن غزة، وخان يونس، ورفح المكتظة بسكانها متاهات من المباني متعددة الطوابق المبنية من الخرسانة والطوب، والمنشأة في أغلبها بطريقة سيئة. وهي متهالكة وعرضة للانهيار بسبب القصف المدفعي أو الغارات الجوية. وهو أمر بالغ الخطورة على السكان المدنيين المحاصرين وعلى الجنود المهاجمين على حد سواء. يمكن أن تحد الأضرار التي يلحقها القصف بالمباني الحضرية من قدرة القوات المهاجمة على المناورة، حيث تتسبب في إغلاق الشوارع بالركام وتوجيه القوات المتقدمة إلى الكمائن المعدة لقتلها. وكان هذا من بين الأسباب التي جعلت معركة الموصل تستغرق عدة أشهر. كان المدافعون يقاتلون من بين الأنقاض، ويخرجون من الركان لشن الهجمات المضادة ومحاصرة المقرات والمرافق اللوجستية من اتجاهات غير متوقعة.

في غزة، عملت “حماس” طوال ما يقرب من عقدين على تطوير شبكة كثيفة من الدفاعات، بما فيها واحد من أكبر أنظمة الأنفاق وأشدّها تحصيناً على الإطلاق في قتال المدن. وهي تتكون من ممرات تحت أرضية تقول “حماس” إنها تمتد لأكثر من 300 ميل. ويمكن أن يشكل القتال تحت الأرض، خاصة في الأنفاق القريبة جداً من الساحل وتغمرها المياه بشكل دوري، أحد أكثر جوانب المعركة تحدياً. وفي هذه البيئة، يمكن أن تساعد الروبوتات والأنظمة ذاتية التشغيل، بما فيها المسيّرات القادرة على استكشاف أنظم الأنفاق والاشتباك مع الأعداء تحت الأرض أو تحت الماء، في تطهير الممرات تحت الأرض. ويمكن أن يُستخدم الإغراق بالمياه أو إلقاء الغاز المسيل للدموع وغيرها كوسائل حاسمة أيضاً لدى القتال في الأنفاق أو الأقبية أو المساحات الداخلية. لكنّ احتشاد المدنيين غير المشتركين في القتال عند مثل هذه الأماكن، يجعل من استخدام هذه الأساليب خطرا كارثيا كامنا. وفي نهاية المطاف، لا يمكن أن يفعل أي شيء ما يستطيع أن يقوم به المقاتلون المزودون بالأسلحة وأجهزة الاستشعار والكلاب المدربة وأجهزة الرؤية الليلية لتأمين هذه الأنفاق. وسوف تكون هذه المهمة صعبة، ومميتة، وبطيئة للغاية.

اعرف عدوك

أصبحت “حماس” الآن قوة متمكنة تقنيا ومترابطة اجتماعيا تقاتل على أرض وطنها. وتعمل قواتها في مجموعات صغيرة مرتبطة معا وتستخدم أنظمة أسلحة فتاكة من النوع الذي لم يكن متاحاً تقليدياً في التاريخ الحديث سوى للقوات المسلحة الرسمية للدول ذات السيادة. ويغلب أن تعمد الحركة إلى استخدام تكتيكات دفاعية شبكية تقوم على الاحتفاظ بمواقع استراتيجية واستغلال نقاط القوة لتأخير وعرقلة تقدم الجيش الإسرائيلي، بينما يتم في الوقت نفسه الاحتفاظ بقوات متحركة كاحتياط، والتي تكون جاهزة لشن الهجمات المضادة أو التسلل إلى المناطق التي تم تطهيرها مرة أخرى. وسوف يستخدم المقاتلون المعدات العسكرية التقليدية المتوفرة بسهولة، بالإضافة إلى الفخاخ المتفجرة والعبوات الناسفة البدائية. وقد أظهرت “حماس” مسبقا قدرتها على خوض حرب إعلامية بارعة لكسب الدعم الدولي. 

كما يبدو، أصبح ما بدأ كهجوم مروع على المدنيين الإسرائيليين، مستغلاً عاملَي الصدمة والمفاجأة، يتحول الآن إلى معركة شاقة وبطيئة، مكلفة ومثيرة للجدل، تُخاض في الجو والبر والبحر وفي الفضاء السيبراني. وسيكون من الصعب للغاية، حتى على الموجودين في الميدان أنفسهم، استيعاب ما يحدث داخل بيئة غزة المعقدة والمكتظة بالسكان. كما أن العديد من العناصر، بما فيها التقنيات الناشئة، والسمات المعروفة للقتال في المناطق الحضرية التي حددها حلف شمال الأطلسي، (العقبات العسكرية، والكثافة السكانية، والتعقيد، والتهديدات المختلفة)، إلى جانب المحدِّدات المادية والبشرية والمعلوماتية وقيود البنية التحتية التي تفرضها المدن على القوات العسكرية، ستلعب كلها أدوارا مهمة في مسارات الأحداث المقبلة.

يوفّر إدراك الصعوبات التكتيكية لحرب المدن سياقا مهما يمكن لإسرائيل أن تستخدمه لدى تقويم صواب -أو عدم صواب- شن هجوم بري واسع النطاق في غزة. ويغلب أن يساور المخططين في الجيش الإسرائيلي قلق من حقيقة أنه بمجرد انخراط قواتهم بشكل حاسم في القتال البري في غزة، فإن لاعبين إقليميين آخرين، مثل “حزب الله” في لبنان، والميليشيات المدعومة من إيران في سورية، أو حتى القوات الإيرانية نفسها، ربما تعمد إلى مهاجمة إسرائيل، مما يفرض عليها حرباً متعددة الجبهات. وربما يفكر الإسرائيليون، على أساس هذا الاحتمال، بتوجيه ضربة استباقية إلى هؤلاء الفاعلين الإقليميين قبل دخول غزة، لكنَّ قرارا من هذا النوع ينطوي على أخطار كبيرة.

تنطوي حملة برية تُشن في غزة أيضا على أخطار استراتيجية مهمة. على الأرجح، يمكن في إطار الحرب الإعلامية التي تشنها “حماس” وإيران، أن يُنظر إلى تدمير الممتلكات والإصابات الكثيرة بين المدنيين والتهجير القسري للسكان لدى نشوب معركة حضرية في غزة، على أنه تطهير عرقي في أحسن الأحوال. وسوف يلحق ذلك ضررا بشرعية إسرائيل الأخلاقية، وربما يجبرها على إيقاف العملية لضرورات سياسية بغض النظر عن مدى التقدم الذي يكون قد تم إحرازه على الأرض. وكان الجنود ومشاة البحرية الأميركيون قد واجهوا وضعاً مماثلاً خلال معركة الفلوجة الأولى في العراق في نيسان (أبريل) 2004. وفي ذلك الحين، أجبرت الاحتجاجات الدولية إدارة بوش على وقف العملية على الرغم من إحرازها تقدما كبيرا. وقد أتاح ذلك للمتمردين التقاط أنفاسهم وتعزيز دفاعاتهم قبل خوض المعركة الثانية في تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام. ويمكن ملاحظة أن تلك الحالة من الارتباك السياسي تسببت في فقدان أرواح أميركية. لكنّ الضرر الاستراتيجي الناجم عن فقدان الشرعية الأخلاقية في عملية غزة يمكن أن يكون في المقابل كبيرا للغاية، سواء بالنسبة لإسرائيل أو حلفائها، بمن فيهم الولايات المتحدة نفسها.

كل هذه العوامل تشير إلى أن الهجوم البري على غزة سيكون وفق الاحتمالات مروعاً، وسوف تترتب عليه عواقب وخيمة. لكنّ هذا سيكون، كما يعرف كل جندي، خيارا ضروريا لا مفر منه، ويغلب أن تبدأ هذه المرحلة التي لا يمكن التنبؤ بنتائجها في القريب.

 

*ديفيد كيلكولين David Kilcullen: أستاذ الدراسات الدولية والسياسية في جامعة نيو ساوث ويلز، والرئيس التنفيذي لشركة البحوث العالمية “مجموعة تطبيقات كورديليرا” Cordillera Applications Group، وهو مؤلف كتاب “خارج الجبال: العصر المقبل لحرب العصابات في المناطق الحضرية”. شغل منصب كبير مستشاري الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس في شؤون مكافحة التمرد في العام 2007.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: How Will the IDF Handle Urban Combat? Fighting Hamas in Gaza Will Be Difficult and Costly