مرايا –

لماذا يجب على واشنطن كبح جماح العمل العسكري في غزة والحفاظ على طريق للسلام؟

* * *

إن رغبة إسرائيل في تدمير “حماس” بصورة حاسمة ونهائية هي رغبة مفهومة تماماً، فقد أسفرت الهجمات العنيفة التي شنتها الحركة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عن مقتل أكثر من 1.300 إسرائيلي وجرح آلاف غيرهم، واحتجاز حوالي 150 رهينة، ومعظم القتلى أو الجرحى أو المختطفين كانوا من المدنيين.

كما أثارت الهجمات مسألة سبل ردع “حماس” عن تنفيذ هجمات مماثلة في المستقبل، لكن مجرد كون الهدف مفهوماً لا يعني حكماً أن السعي إلى تحقيقه هو المسار الأمثل أو -حتى المستحسن.

 

 

 

وتبدو استراتيجية إسرائيل الظاهرة معيبة على صعيد كل من الغايات والوسائل.

 

 

إن “حماس” هي شبكة وحركة وأيديولوجية أكثر منها منظمة، وقد يكون قتل قيادتها أمرًا ممكناً، لكن كيانها، أو شيئًا من هذا القبيل، سيبقى.

 

 

بدأت إسرائيل ردها بتنفيذ غارات جوية على غزة، وهناك قدر كبير من الأدلة على أنها تستعد لغزو بري واسع النطاق، وهذا يضع واشنطن في موقف صعب.

 

 

كانت إدارة بايدن محقة في دعمها لحق إسرائيل في الانتقام، ولكن ما يزال يتعين عليها محاولة تحديد طبيعة هذا الانتقام، ولا يمكن للولايات المتحدة إجبار إسرائيل على التخلي عن غزو بري واسع النطاق أو الحد منه مباشرة بعد شنه، لكن صناع السياسة الأميركيين يمكنهم المحاولة ويجب عليهم ذلك، كما يجب عليهم أيضاً اتخاذ خطوات للحد من فرص اتساع الحرب.

 

 

 

ويتعين عليهم أن ينظروا إلى ما هو أبعد من الأزمة، وأن يضغطوا على نظرائهم الإسرائيليين لكي يقدموا للفلسطينيين مساراً سلمياً قابلاً للتطبيق وصولاً إلى إقامة دولتهم.

 

 

لا تعتمد قضية مصلحة عمل الولايات المتحدة على تشكيل استجابة إسرائيل للأزمة وتداعياتها على مجرد الحقيقة القائلة إن المشورة الجيدة -وإن كانت قاسية- هي ما يدين به الأصدقاء لبعضهم بعضاً فقط؛ إن لدى الولايات المتحدة مصالح في الشرق الأوسط وما وراءه ولن يخدمها غزو واحتلال إسرائيليان لغزة، ولا سياسات إسرائيلية بعيدة الأمد لا تقدم أي أمل للفلسطينيين الذين يرفضون العنف.

ومن المؤكد أن سعياً أميركياً من هذا النوع سيتطلب إدارة محادثات صعبة وعمل سياسي صعب. لكن البديل، وهو حرب أوسع واستمرار الوضع الراهن غير المستدام إلى أجل غير مسمى، سيكون أكثر صعوبة وخطورة.

 

 

الغايات والوسائل

تتمثل النقطة الأولى ضد شن غزو واسع النطاق بأن كلفه ستفوق بالتأكيد أي منافع. لا تشكل “حماس” أهدافاً عسكرية واضحة لأنها رسخت بنيتها التحتية العسكرية بعمق في المناطق المدنية داخل غزة، وسوف تتطلب محاولة تدمير هذه الأهداف هجوماً واسع النطاق في بيئة حضرية مكتظة بالسكان، الأمر الذي سيثبت أنه مكلف لإسرائيل ويؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين في تطور من شأنه أن يولد الدعم لـ”حماس” في صفوف الفلسطينيين، وستتكبد إسرائيل أيضاً خسائر بشرية فادحة، ويمكن أن تعاني من اختطاف جنود إضافيين.

 

إذا كان هناك شبه تاريخي لهذا الوضع، فإنه سيكون أقرب إلى تجربة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق منه إلى ما أنجزته إسرائيل في حربي العامين 1967 و1973.

 

 

 

سيكون من شأن استخدام القوة الهائلة ضد غزة (بدلاً من العمل الأكثر استهدافاً الموجه ضد “حماس”) أن يثير أيضاً احتجاجاً دولياً، وسيتوقف التطبيع الإضافي مع الحكومات العربية، وفي مقدمها الحكومة السعودية، وستعلَّق علاقات إسرائيل الحالية مع جيرانها العرب -أو أنها ربما تلغى.

 

 

كما يمكن أن يؤدي القيام بمهمة عسكرية كبيرة ولفترة طويلة إلى اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقاً، إما بسبب قرار مدروس من حزب الله (بتحريض من إيران) بإطلاق صواريخ على إسرائيل، أو بسبب اندلاع أعمال عنف عفوية في الضفة الغربية تستهدف الإسرائيليين أو الحكومات العربية التي تقيم علاقات مع مصر، والتي تعيش في سلام منذ وقت طويل مع إسرائيل.

 

 

وحتى لو تمكنت إسرائيل من سحق “حماس”، فما الذي سيأتي بعد ذلك؟ لا توجد سلطة بديلة متاحة لتحل محلها. فالسلطة الفلسطينية التي تشرف على الضفة الغربية تفتقر إلى الشرعية، والقدرة والمكانة في غزة.

 

 

 

وليست هناك حكومة عربية مستعدة للتدخل وتحمل مسؤولية غزة. وهكذا، سرعان ما ستظهر “حماس” أو نسخة طبق الأصل عنها، كما حدث بعد انسحاب إسرائيل من غزة في العام 2005.

 

 

لا شيء من هذا يعني أن إسرائيل لا يجب أن تقوم بعمل ضد “حماس”، بل العكس، يجب عليها أن تفعل. مثل أي بلد آخر تتمتع إسرائيل بالحق في الدفاع عن النفس، الذي يخولها ضرب الذين هاجموها أو يستعدون لمهاجمتها أينما كانوا. وإضافة إلى ذلك، يجب على إسرائيل أن تظهر الثمن الذي سيدفعه أولئك الذين يشنون هجمات مروعة كهذه.

 

 

 

ومع ذلك تبقى كيفية الرد على هجمات “حماس” مسألة منفصلة. ثمة خيار مختلف يتمثل في تجنب غزو واحتلال واسعي النطاق لغزة والقيام بدلاً من ذلك بضربات موجهة ضد قادة “حماس” ومقاتليها.

 

 

 

وبذلك ستتدهور إمكانات “حماس” العسكرية، وستبقى الخسائر العسكرية الإسرائيلية والمدنية الفلسطينية على حد سواء عند الحد الأدنى.

 

 

 

كما يجب على إسرائيل أيضاً إعادة تأسيس قدراتها العسكرية على طول حدودها مع غزة، وهو ما من شأنه أن يساعد على استعادة الردع وجعل الهجمات الإرهابية المستقبلية أقل احتمالاً.

 

 

حظيت إدارة بايدن بتأييد ودعم كبيرين من كل من الحكومة الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي عقب الخطاب الاستثنائي الذي ألقاه الرئيس جو بايدن في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي وزيارة وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى إسرائيل وقرار تزويد إسرائيل بما تحتاج إليه عسكرياً.

 

 

ولاحظ ماريو كومو، الذي شغل منصب حاكم نيويورك ذات مرة، أن السياسي ينفذ حملته بالشِّعر، لكنه يحكم بالنثر (أي أن السياسيين غالباً ما يستخدمون لغة بليغة ومثالية خلال حملاتهم الانتخابية مثل “الشعر”. ولكن وبمجرد وصولهم إلى مناصبهم يتعين عليهم استخدام أساليب أكثر وضوحاً وواقعية، “النثر”).

 

 

وهكذا، كان خطاب بايدن شعراً، لكن الوقت حان للتحول إلى النثر ومن الأفضل تقديمه سراً.

 

 

 

يجب على الولايات المتحدة وإسرائيل أن تسعيا معا إلى تجنب نتيجة تنطوي على الضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار وسط إدانة واسعة إقليمياً وعالمياً.

 

 

 

ويمكن للحكومات العربية، بما في ذلك حكومة المملكة العربية السعودية، أن تعزز هذه الرسالة وأن تساعد على تسهيل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين وإرسال إشارة إلى إسرائيل بأن التطبيع يمكن أن يستمر بعد انتهاء الحرب إذا كانت تصرفات إسرائيل مسؤولة.

احتواء الحرب

يجب أن يكون الهدف الأميركي الثاني هو عدم التشجيع على أي توسيع للحرب. ويكمن الخطر الأكبر في أن “حزب الله”، الذي يمتلك حوالي 150 ألف صاروخ يمكن أن تضرب إسرائيل إذا ما دخل المعركة. ومرة أخرى تتمثل أفضل طريقة لتحقيق ذلك في إقناع إسرائيل بالامتناع عن القيام بعمل كبير سيعد على نطاق واسع عشوائياً، لأن عملاً كهذا يمكن أن يولد ضغطاً وذريعة لـ”حزب الله” للتحرك.

 

لا تملك الولايات المتحدة أكثر من قدرة محدودة على إبعاد “حزب الله”. كما أن إسرائيل، كما يرينا التاريخ، لا تملك خيارات جيدة في لبنان. لكن واشنطن يمكن أن تساعد في هذا المجال من خلال إبلاغ إيران بأنها ستحاسَب على أفعال “حزب الله”، وسيتطلب ذلك أن تشير الولايات المتحدة إلى أنها مستعدة لإلحاق الأذى بإيران إذا هاجم “حزب الله” إسرائيل، مثلاً، من خلال خفض صادرات النفط الإيرانية (تبلغ الآن حوالي مليوني برميل يومياً).

 

 

 

وبما أن كثيراً من هذا النفط ينتهي به المطاف في الصين، يجب على واضعي السياسات الأميركيين النظر في إفهام نظرائهم الصينيين أن واشنطن مستعدة لوقف كثير من هذه التجارة من خلال فرض عقوبات على أولئك الذين يستوردون النفط الإيراني -أو إذا لزم الأمر عن طريق مهاجمة منشآت إنتاج أو تكرير إيرانية مختارة.

 

 

 

وقد تكون بكين مستعدة لاستخدام نفوذها مع إيران، لأن آخر ما يحتاج إليه الاقتصاد الصيني المضطرب هو ارتفاع كلف الطاقة.

 

 

 

ويجب على واشنطن أيضاً تعليق أي تخفيف إضافي للعقوبات عن إيران إلى أجل غير مسمى، وإعادة تأكيد حدود تسامحها عندما يتعلق الأمر ببرنامج إيران النووي.

 

 

 

وكان الهدف البريطاني هو الإشارة إلى أن العنف سيفشل وأن الجيش الجمهوري الأيرلندي لا يمكنه شق طريقه إلى السلطة بالعنف.

 

 

أما المسار الثاني فكان يتعلق بتحقيق النجاح النهائي للسياسات البريطانية، وهو ما بلغ ذروته في “اتفاق الجمعة العظيمة” أو “اتفاق بلفاست” في العام 1998، الذي أنهى فعلياً ثلاثة عقود من العنف المعروف باسم “الاضطرابات”.

 

 

 

وقد أعطى هذا المسار قادة الجيش الجمهوري الإيرلندي الفرصة للمشاركة في مفاوضات جادة وعدت بجلب بعض ما سعوا إليه إذا تجنبوا العنف.

 

 

 

وسوف يحتاج المسؤولون الأميركيون إلى التحدث مباشرة وبصدق إلى نظرائهم الإسرائيليين.

 

 

 

ومن الغريب أن إدارة بايدن كانت أكثر قوة في الرد على الإصلاح القضائي الإسرائيلي ومسائل العمل السياسي الداخلي من رد فعلها على نهج إسرائيل تجاه المسألة الفلسطينية، لكنها تحتاج إلى إجراء نوع من المحادثات مع إسرائيل لا يمكن أن تجريها سوى الولايات المتحدة؛ أقرب شريك لإسرائيل.

 

 

بقدر ما كان الإصلاح (التعديل) القضائي المقترح وما يزال يشكل تهديداً كبيراً للديمقراطية في إسرائيل، كشفت أحداث الأسابيع الأخيرة أن المسألة الفلسطينية التي لم تحل بعد تشكل تهديداً أكبر بكثير.

 

*ريتشارد هاس: الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية. هذا المقال مترجم عن مجلة “فورين أفيرز”، 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.