مرايا –

العناوين العريضة التي استهلّ بها جلالة الملك خطابه في اجتماعات الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، كفيلة بأن تدقّ ناقوس الخطر أمام ملفات راكدة وبطيئة يعانيها العالم وتتحمّل تبعاتها الشعوب، في مكاشفة واضحة وصريحة، يبرز فيها الأردن بقيادة جلالته بلداً مبادراً يأسى لأزمات إنسانيّة متوالدة ويبحث لها عن حلول، وفي الوقت ذاته يرنو لمستقبلٍ أفضل يضيء على المحبّة والسلام والمزيد من التشاركيّة والفاعليّة.
طرح جلالته بكلّ شفافيّة قضايا سياسيّة وأخرى طبيعيّة تحتاج إلى تظافر الجهود وتكاتف الدول؛ باعتبار الجميع ليس بمنأى عنها، سواءً في موضوع الأمن الغذائيّ، أو أزمة المناخ العالمي، أو النموّ الاقتصاديّ وجدوى الشراكات الإقليمية نحو فرص جديدة، أو قضيّة اللاجئين وكُلَف الاستضافة والواجب وضرورة أن يتنبّه العالم لذلك، ومشكلة الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ الذي يهدد السلام في المنطقة، ومستقبل مدينة القدس، المدينة المقدّسة للمليارات من أتباع الديانات السماوية حول العالم، وشرف الوصاية الهاشميّة والجهود المتواصلة من جلالته للحفاظ على الوضع القانونيّ والتاريخي القائم فيها وسط ما يحيق بتراث القدس والديانات فيها من أخطار.
العالم يتغيّر والأزمات تتداخل، وما إن تنفّس العالم الصعداء بعد انتهاء الأزمة الكونيّة كورونا، حتى أفاق على عنفٍ وتطرف، وتضخّمٍ متنامٍ، وكسادٍ اقتصاديّ وشيك، وكلّ ذلك ينذر بانعدام الأمن الغذائيّ الذي تتحمّل النصيب الأكبر منه دول العالم الثالث بامتياز،.. هذه نظرة جلالة الملك وقلقه أمام أجيال تنتظر منّا مساحات كبيرة من العمل وتحقيق الفرص؛ إذا صحّت النيّة وتماسكت العزائم وتجسّدت الشراكات.
في خطابه، وضع جلالة الملك الذات الأردنيّة المبادرة للشراكة بكلّ إمكانات النجاح والتصميم، بالرغم من تحديات البيئة والطبيعة بفعل التغيّر المناخي، كما نبّه جلالته على كوارث إنسانيّة لمئات الملايين في العالم ينامون جياعًا، أمام حقّهم الضائع في التنشئة الصحيّة والتعليم، فضلًا عن حقّ العيش، في ظلّ تهديد مصادر سلاسل توريد الغذاء بمستجدات الحروب ومتغيراتها المؤثّرة على الجميع.
وبالتأكيد، كان نداء جلالة الملك «الأصدقاء» لشراكات تكامليّة متعددة الأطراف، كما في نموذج الشراكة الأردنية العربيّة، نداءً حافلًا بالعقل والنخوة الصادقة لشراكات أكبر للتصدي للأزمات الدولية وتوفير الإغاثة الإنسانيّة التي ضرب بلدنا فيها مثالًا عاليًا في استقبال بلدٍ صغير بمساحته كبير في همّته وإنسانيّته ما يزيد عن 1,3 مليون لاجئ سوري بعد عشر سنواتٍ من اللجوء!
الشعوب هي الأولويّة والسياسة قد تخذل عالمنا، جملة صادقة يطلقها جلالة الملك وهو يرجو أن يبقى الأمل حيًّا للجميع، من خلال مشاريع اقتصاديّة إقليميّة تبعث على هذا الأمل وتغذّيه.
وإذ يأسى جلالة الملك لسلام ما يزال مطلبًا بعيد المنال، في موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، داعيًا إلى مواصلة العمل والضغط لإنهاء هذا الصراع، فإنّ فرصًا ضائعة عبّر عنها جلالته أجمل تعبير في تقابل جسور التعاون أمام معاول الهدم المتطرّف واستغلال ظلم الاحتلال، في ظلّ مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ودعم حقوقهم في توفير التعليم والخدمات الصحيّة، وخاصةً للأطفال.
أمّا الطريق إلى الأمام، فهو في «حلّ الدولتين»، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة والقابلة للحياة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقيّة.
إنّ تأكيد جلالة الملك على الوصاية الهاشميّة على المقدسات، يضع الجميع بصورة ما تعانيه هذه المدينة بكلّ أطيافها الدينيّة من مخاطر، وما يواجهها من تهديد بالانقسامات الدينيّة وخطاب الكراهيّة. وفي تأكيد جلالته كذلك ما يُبرز أهمية الوجود المسيحي في المنطقة والأراضي المقدسة، وبأن المسيحيّة كدينٍ سماوي وكحضارة جزء أصيل من ماضي منطقتنا ومن حاضرها ومستقبلها أيضاً، وهذا يستدعي تضافر كلّ الجهود الإنسانيّة وتكاتفها باستمرار لحماية المقدسات ولضمان حرية العبادة فيها.