مرايا – 

نيري زيلبر* – (نيو لاينز)

ما الذي تعنيه الجولة الأخيرة من القتال ضد “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” -وليس ضد “حماس”- ولماذا من المحتمل أن يندلع القتال مجدداً.

* *
قبل أسبوع واحد من الجولة الأخيرة من القتال بين إسرائيل وجماعة “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين”، في غزة خلال في وقت سابق من هذا الشهر، أدلى أحد كبار مسؤولي الأمن الإسرائيليين ببعض التصريحات التنبؤية. بخلاف حركة “حماس”، التي هي الجماعة الأكبر والأقوى التي تحكم غزة على أرض الواقع، قال لي هذا المسؤول الأمني إن “حركة الجهاد الإسلامي كانت خارج الصورة… من دون أي مسؤولية في الحكم، الأمر الذي يتطلب معاملتها بشكل خاص” إذا اختارت التصعيد.
وجاءت هذه “المعاملة الخاصة” في شكل عملية عسكرية استمرت ثلاثة أيام أطلقتها إسرائيل يوم الجمعة، 5 آب (أغسطس)، بعد أيام عدة من تهديدات “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” بشن هجوم عبر الحدود من غزة على جنوب إسرائيل (جاء ذلك بسبب اعتقال قيادي بارز في “الحركة” في الضفة الغربية في بداية الأسبوع نفسه). ووفقاً لمعظم التحليلات، سارت الأعمال العدائية التي نتجت عن ذلك -الضربات الجوية الإسرائيلية على غزة، وصواريخ “الحركة” على إسرائيل- بشكل سيئ للغاية بالنسبة لـ”الحركة”. فقد قُتل أبرز قادتها الميدانيين، وتضررت العديد من أصولها العسكرية، كما لم تتسبب صواريخ وقذائف الهاون التي أطلقتها وناهز عددها الألف بأضرار تذكر بسبب منظومة “القبة الحديدية” الإسرائيلية للدفاع الجوي.
وبعد بدء سريان قرار وقف إطلاق النار في وقت متأخر من ليل الأحد، 7 آب (أغسطس)، أخبرني مصدر دبلوماسي إسرائيلي رفيع أن “الحركة” تلقت “ضربة خطيرة للغاية أعادتها عقوداً إلى الوراء. وهي لم تتوقع ذلك، بل فوجئت بقدراتنا”. وتمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من تحديد مكان قائد المنطقة الشمالية بقطاع غزة في “الحركة” وقتله في غاراتها الجوية الأولى يوم الجمعة؛ وفي الليلة التالية وفي خضم التصعيد الذي شهدته المعركة، قُتل نظيره في المنطقة الجنوبية أيضاً في غارة جوية إسرائيلية (لـ”حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” لواءان فقط في قطاع غزة).
لكن الجانب الأكثر دلالة هو أن “حماس” بقيت بعيدة عن المعركة. فعلى الرغم من وقوع قتلى داخل غزة؛ حيث لقي أكثر من 40 شخصاً حتفهم وجرح أكثر من 300، بمن فيهم أطفال ومدنيون آخرون، اتخذت “حماس” موقف المتفرج على القتال بين إسرائيل و”الجهاد”. ويتماشى ذلك مع معظم أحداث العام الماضي، منذ الجولة الأخيرة من الحرب المفتوحة بين إسرائيل و”حماس” في أيار (مايو) 2021. ووفقاً لبعض التقديرات، كانت هذه هي الفترة الأكثر هدوءاً داخل غزة وفي محيطها لعقدين من الزمن -وليس ذلك من قبيل الصدفة.
خلال العام الماضي، استغلت إسرائيل فترة ما بعد الحرب للشروع في ما وصفه لي مسؤولوها بأنه “برنامج مدني موسع” يهدف إلى التخفيف من المحنة الاقتصادية والإنسانية الحادة لمليوني شخص يعيشون في غزة، وزيادة أعباء تجدد القتال على حركة “حماس”. وكما أبلغني مسؤول أمني إسرائيلي ثانٍ، كان الهدف “ليس تعزيز قدرة غزة على الصمود فحسب، بل مساعدتها على التطور… و”حماس” ليست منفصلة عن جمهورها؛ عليها أن تأخذ ذلك في الاعتبار للحفاظ على شرعيتها”.
ولم تقرر إسرائيل اعتماد هذه السياسة بخيار منها، بل بسبب استراتيجية مستدامة تنتهجها “حماس”، تعود إلى أكثر من عقد من الزمن، تهدف إلى إرغام إسرائيل على “إنهاء الحصار” الذي فرضته على غزة. وكان الهدف الكامن تقريباً من كل جولة قتال أو احتجاج واسع النطاق، (في الأعوام 2008-2009، 2012، 2014، 2018-2019) هو انتزاع المزيد من التنازلات الاقتصادية من إسرائيل -وقد تكلل ذلك بالنجاح. كما أن كل قرار بوقف إطلاق النار شرح على نحو أكبر التنازلات التي قدمتها إسرائيل. وكما أخبرني أحد كبار مسؤولي الأمن الإسرائيليين “ستعرف غزة استقراراً أكبر إذا كان وضعها الاقتصادي جيداً… نحن لا نريد جر إسرائيل إلى معركة في غزة كل أسبوع”.
خلال العام الماضي، انتهجت إسرائيل هذه السياسة حتى بصورة أكبر؛ حيث خففت القيود المفروضة على استيراد مجموعة متنوعة من مواد البناء إلى غزة، مما سمح ببدء العمل بالعديد من مشاريع البنية التحتية التي جرى التخطيط لها منذ فترة طويلة -من بينها محطة لتحلية المياه ومرافق معالجة مياه الصرف الصحي- وذلك خلال الأشهر الستة الماضية. وتم زيادة توليد الكهرباء في غزة، كما تضاعف حجم استيراد وتصدير السلع تقريباً، وتم منح عمال غزة تصاريح للعمل داخل إسرائيل بشكل جماعي، لأول مرة منذ أن سيطرت “حماس” على القطاع في العام 2007. (أكد لي هذه المعلومات مسؤولون غربيون).
في الوقت الحالي، يدخل أكثر من 14 ألفا من سكان غزة إلى إسرائيل يومياً. ويمكن لكل عامل أن يكسب 150 دولاراً تقريباً كل يوم- 10 أضعاف ما قد يكسبه كل منهم داخل غزة.
تقول مجموعات المساعدات إنه من الضروري القيام بالمزيد من العمل، وهي محقة في ذلك. فوفقاً لتانيا هاري، المديرة التنفيذية لجمعية “جيشاه-مسلك” (منظمة غير حكومية إسرائيلية تدافع عن حرية التنقل للفلسطينيين)، فإن القيود الإسرائيلية المفروضة على استيراد المواد “مزدوجة الاستعمال” التي تدعي السلطات أنها قد تستخدم لأغراض عسكرية ما تزال اعتباطية في معظم الأحيان، وتصل حتى إلى حد السخافة. كما ما تزال حركة الدخول والخروج إلى غزة ومنها والتنقل داخل القطاع -على سبيل المثال زيارة الأقارب أو تلقي العلاج الطبي أو الالتحاق بالجامعة- خاضعة لقيود مشددة؛ حيث يرفض الجيش الإسرائيلي الطلبات بسبب ظهور عبارة “دولة فلسطين” على ترويسة الورقة. وتشير التقديرات إلى أن 100 ألف من سكان غزة تقدموا بطلبات للحصول على تصاريح العمل المذكورة سابقاً في إسرائيل، في إشارة واضحة إلى كثرة الطلب وشدة الحاجة على حد سواء. وقالت لي هاري: “عندما ننظر إلى هول الواقع الذي وصلت إليه غزة، نرى أننا ما نزال نعالج الآثار الظاهرة فحسب”.
لكن هذا التغيير في سياسة إسرائيل يكتسي أهمية باعتباره نقلة نوعية من سياسة الحصار الكامل الذي فرضته خلال السنوات الماضية. وقبل سنوات عدة، سألني مسؤول إسرائيلي بارتياب عن السبب الذي دفع بالأمم المتحدة إلى تسهيل إيصال مبالغ مالية إلى “جماعة إرهابية” مثل “حماس”. (قال: “هل جنّوا”؟). غير أن الحكومة الإسرائيلية الحالية سمحت، تماماً كسابقتها المباشرة، باستمرار ضخ ملايين الدولارات القطرية شهرياً لتمويل رواتب القطاع المدني التابع لـ”حماس” ومكافآت للأسر الأكثر احتياجاً.
ويدرك المسؤولون الإسرائيليون مخاطر هذه السياسة على صعيدين: أولاً، في أذهانهم، قد يؤدي ذلك ببساطة إلى تقوية “حماس” وغيرها من الجماعات المسلحة في غزة، التي تستغل إرخاء القيود على النفاذ إلى مواد البناء والأموال لتعزيز قدراتها العسكرية. وبرأيهم، هذا سبب رئيسي لعدم رفع جميع القيود بالكامل. وعند الحديث عن عالم لا يفرض قيوداً على أرض خاضعة لـ”حماس”، أشار أول مسؤول أمني إسرائيلي بارز تحدثت معه (وأشرت إليه في بداية المقال) إلى أنه “في غضون أسابيع، سنرى بطارية إيرانية (عسكرية) في غزة مزودة بأسلحة استراتيجية”. وتجدر ملاحظة أنه على الرغم من الحصار طويل الأمد الذي فُرض على غزة، تمكنت “حماس” من تحسين أدائها العسكري باطراد -ولا سيما مدى ترسانتها الصاروخية- خلال كل جولة من القتال.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى المشكلة الإضافية المتعثرة لصفقة تبادل الأسرى؛ حيث تطالب إسرائيل بإعادة مواطنيَن يعانيان من اضطراب عقلي إلى جانب جثتي جنديين تحتجزهما “حماس”. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد أرجأت تنفيذ العديد من الخطوات الاقتصادية الرئيسية، مثل خطة طموحة لتزويد غزة بالغاز الطبيعي، بسبب قضية الأسرى على وجه التحديد.
أما الخطر الثاني الناتج عن هذه السياسة فهو ببساطة احتمال فشلها. فقبل التصعيد الذي شهده القطاع في بداية هذا الشهر، بنت إسرائيل استراتيجيتها على واقع أنه نظراً للوضع الاقتصادي الجديد (والمتحسن) في غزة، قد تتصرف “حماس” كما لو أنها السيد الحاكم، وقد تعمل على منع الجماعات المسلحة الأصغر حجماً من مهاجمة إسرائيل. وللمفارقة، صرح المسؤول الأمني الإسرائيلي البارز في الأسبوع السابق: “حماس قادرة على كبح هذه الجماعات إذا أرادت ذلك”. أي أنه قال هذا قبل أيام فقط من فشل “حماس” في القيام بذلك -إما لأنها غير قادرة أو لأنها غير راغبة.
ومع ذلك، يجب ألا نغفل عن واقع أنه خلال العام الماضي، نجحت “حماس” في منع إطلاق جميع الصواريخ تقريباً من غزة، بما في ذلك صواريخها الخاصة. وعمدت خلال الاشتباك الأخير إلى ترك “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” بمفردها في المعركة، في خطوة تحمل دلالات كثيرة. وقال لي المصدر الدبلوماسي البارز: “لم تشارك حماس في (القتال)، ويبدو أنها لم تكن مهتمة به أساساً، وهذا دليل على نجاح هذه السياسة”.
قد يكون ذلك صحيحاً. وقد تصرف مسؤولو الأمن الإسرائيليون بذكاء شديد حتى عندما وصفوا الاستراتيجية الجديدة إزاء غزة بأنها ليست “بوليصة تأمين لما قد يحدث غداً”، على حد تعبير أحدهم.
إن التوترات المستمرة في القدس، والاضطرابات في الضفة الغربية، ومطالبة “حماس” بالمزيد من التنازلات الاقتصادية -أو مجرد تولي جماعة صغيرة على غرار “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين” زمام الأمور مجدداً، يمكن أن تؤدي جميعها إلى تصعيد آخر بين إسرائيل وغزة. بإمكان إسرائيل أن توقف بسرعة تنفيذ العديد من الخطوات الإيجابية التي اتخذتها في العام الماضي، كما فعلت خلال معظم الأسبوع الذي سبق الاشتباك، عندما أغلقت معابر غزة الحدودية.
وبالسرعة ذاتها، وبحلول منتصف أسبوع وقف إطلاق النار، عاد الوضع على الأرض إلى حالته “الطبيعية” لما قبل الحرب في جنوب إسرائيل وغزة على حد سواء. وهذا دليل على القيمة الاستراتيجية التي توليها كل من إسرائيل و”حماس” على الجانبين الاقتصادي والمدني لعلاقتهما الناشئة. لكنه مؤشر أيضاً على أنه ليس هناك من يمتلك أفكاراً أفضل للعمل بها.
وفي ظل غياب أي تفاهم أطول أمداً وأعمق بين الجانبين، سيكون هذا الهدوء الحذر كافياً لمنع حصول احتدام آخر -إلى حين اندلاع الجولة التالية.
*نيري زيلبر: صحفي ومحلل سياسي وثقافي متخصص في الشرق الأوسط، وزميل مساعد في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” مقيم في تل أبيب. الترجمة العربية لمعهد واشنطن.