مرايا –

في بقعة صحراوية محاطة بالرمال والحصى، ومسيجة بأسلاك شائكة، تحتضن الطفلة السورية غزل عود والدها عازفة أنغام “بكتب اسمك يا بلادي” لوطن لم تزره مطلقا، فيما طفلة أخرى تدعى أيضا غزل تتوجس خيفة من إغلاق المدارس في مخيم الأزرق.

 

بعد مرور 13 سنة على الأزمة السورية التي أدت للجوء الملايين، لا يبدو أن الأطفال الذين يشكلون 61% من سكان مخيم الأزرق يرنون للعودة في ظل اعتياد مع بيئة المخيم.

لا يتجاوز عمر 44% من سكان المخيم 11 عاما؛ وهو عمر يقارب عمر المخيم، ويقل عن عمر اندلاع الثورة في بلادهم؛ مما يجعلهم لا يعرفون سوى المخيم مكانا للمعيشة والتنشئة والذكريات، وفق مقابلات أجرتها “المملكة” مع العديد منهم.

 

يقع مخيم الأزرق للاجئين السوريين على بعد قرابة 100 كيلومتر شرق العاصمة عمّان، وتديره مديرية شؤون اللاجئين السوريين التابعة للأمن العام والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR).

 

يشبه المخيم الذي أتم سنواته العشرة نهاية الشهر الماضي، قرية صغيرة فيها أسواق وعيادات ومدارس ومرافق أخرى يحتاجها اللاجئون، ويعيش فيه 42517 لاجئا في قرابة 9 آلاف “كرفان” يشكلون قرابة 6.7% من اللاجئين السوريين في الأردن المسجلين في المفوضية.

“بكتب اسمك يا بلادي”

 

لم ترَ غزل الغزاوي (9 سنوات) التي تنحدر من درعا، بلادها سوريا، لكنها تداعب أوتار العود بريشة يفوق طولها أصابعها، وتعزف “بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب”

 

وُلدت غزل الغزاوي في سحاب، وترعرعت في مخيم الأزرق، وعلمها والدها العزف على العود، وتقول وهي تمسك بضفيرتها الشقراء وقد بدا عليها الخجل، إنها تحب اللغة العربية، وتريد أن تصبح طبيبة أسنان، ثم أحبت أن تعزف أيضا “غزالي غزالي طاب جرحي طاب والقمر سلاني يا عين بنص الليل وغاب”

 

“أنا من الأردن”

 

وفي ركن آخر من المخيم، كانت طفلة أخرى تدعى أيضا غزل (8 سنوات) من درعا، تحضر دروسها فيما يبث التلفاز مسلسلا من قناة سورية، لكنها عبرت عن قلقها وخشيتها من إمكانية إغلاق المدارس في المخيم.

 

“بيحكوا إنه بدهم يسكروا المدارس؛ عشان ما في دعم … ما عاد نقدر ندرس هون؛ لأنه مضلش دعم ومصاري” وفق تعبير غزل التي تفضل مادة الرياضيات، وتريد الذهاب لأماكن أخرى مثل عمّان أو ألمانيا؛ ليتمكن والدها ووالدتها من العمل ودفع نفقات الدراسة خارج المخيم.

 

أعلنت المفوضية السامية تخفيضا قيمته 28 مليون دولار لبرامجها في الأردن خلال العام الحالي، في ظل مواجهة المنظمة لانخفاض في التمويل المقدم لعملياتها. وتعتزم المفوضية الأممية تقليص برامج صيانة وإصلاح الملاجئ في المخيمات بشكل كبير، وقالت إن ذلك سيؤثر على حياة اللاجئين، لكنها لم تشر لتغييرات تتعلق بالمدارس.

 

جاءت عائلة غزل من درعا في 2014، وعند سؤال غزل التي لا تذكر كل ألوان علم سوريا، من أين أنتِ؟ أجابت أنا من الأردن. وهي تحب الذهاب إلى عمّان قائلة: “بيحكوا إنه عمان حلوة، وفيها شجر ورحلات ومسابح”.

 

ويدرس قرابة 11800 طفل مسجل في التعليم الرسمي من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر، في 15 مدرسة داخل المخيم، وهناك أيضا خمس رياض أطفال، وفق إحصاءات المفوضية.

 

“ما بدي أرجع”

 

ولا تقتصر جذور العائلات في مخيم الأزرق على جنوب سوريا، بل هناك عائلات لاجئة من مدن ومناطق أخرى مثل حلب التي ينحدر منها عبد المهيمن (9 سنوات) الذي لا يحب العودة إلى سوريا بسبب “الحرب”.

 

يقول عبد المهيمن المولود في الأردن على وقع كلمات والده “مية السلامة” التي يرددها أهالي حلب للترحيب بالضيوف “ما بدي أرجع” كما يود الذهاب إلى ألمانيا عند خاله. يدرس الطفل الحلبي في الصف الثالث ويهوى الرسم ويحب رسم علم الأردن، لكنه يقول إن “المدرسة مانا منيحة”.

 

جاءت عائلة عبد المهيمن إلى المخيم في 2014، وبقيت فيه، وتخرج أحيانا لإجراء بعض الزيارات. ويعزو والده البقاء في المخيم طيلة هذه الفترة إلى “وجود فرص عمل في المخيم، وتكفل المفوضية بعلاج حالات مرضية لدى أفراد أسرته”.

 

يحتوي مخيم الأزرق على ثلاثة مراكز صحية أولية، ومستشفى ميداني واحد، يقدم مجموعة من الخدمات الصحية.

 

وتقدم العيادات خدمات الرعاية الصحية الأولية مثل إدارة الأمراض الحادة والمزمنة، والدعم التغذوي، وخدمات الصحة الجنسية والإنجابية، والصحة العقلية، والمطاعيم. يقدم المستشفى رعاية طبية متوسطة طارئة، بما في ذلك خدمات الولادة ورعاية الأطفال.

أما ريتاج (10 سنوات) التي وُلدت في مخيم الأزرق، وتعود جذورها لبلدة عين بكر في محافظة درعا، فهي لا تريد العودة إلى سوريا، ولا تريد زيارتها. تزور ريتاج التي

 

تدرس في الصف الرابع شقيقتها في عمّان، لكنها تقول “أحب المخيم أكثر، واللعب مع رفيقاتي”

 

حالة العزوف عن إبداء الرغبة في العودة، امتدت إلى محمد وسام (12 سنة) الذي ولد في مخيم الزعتري الذي تعود أصوله إلى مدينة الشيخ مسكين في محافظة درعا. لا يرغب محمد في العودة للعيش في سوريا بسبب تعرض بلاده للصواريخ، فيما حصلت عائلته المكونة من 8 أفراد على قبول لإعادة التوطين في الولايات المتحدة.

يقيم محمد مع عائلته في “كرفان” في مخيم الأزرق ملحق به مساحة ترابية بسيطة مزروع فيها شتلات من النعناع والفول، ويدرس في الصف الثالث، بعدما انقطع عن الدراسة لعمله في زراعة الزيتون في كفرنجة في محافظة عجلون. تمكن محمد الذي يهوى كرة القدم ويناصر فريق ريال مدريد بالكاد من كتابة اسمه، لكنه يقول إنه لا يجيد القراءة.

 

عانى محمد من كتلة سرطانية في الأمعاء وهو بعمر عامين، ويقول والده إن “تمكنه من العيش من المعجزات … والطبيب قال خذه ليموت عندك”!

 

عمان “زابطة” و”بتجنن”

 

لم يختلف الأمر لدى عائلة شحادات، ولم يبد عبدالله وأحمد ومنصور يوسف شحادات الذين تعود جذورهم إلى بلدة النمر في محافظة درعا رغبة في العودة إلى سوريا.

 

يريد عبدالله (9 سنوات) الذهاب فقط إلى مخيم الزعتري لزيارة خاله، أما أحمد (15 سنة) فلا يعرف شيئا عن بلدته غير اسمها بالرغم من خروجه من النمر وهو

 

بعمر 5 سنوات وهو مصاب إثر الحرب، ولا يود الرجوع إلى بلاده؛ بسبب وجود “دمار وقتل وتجنيد في الجيش لمن يتمون 18 سنة” كما أن منصور (14 سنة) لا يريد “العيش في سوريا في هذه الوقت، ولكن عندما ترجع مثلما كانت”

 

أحمد ذهب سابقا في زيارة إلى عمان ويقول إنها “بتجنن ويا ريت أعيش هناك” أما انطباع منصور عن عمان فلخصته تنهيدته المرافقة لعبارة عمان “زابطة”

 

أفادت دراسة مسحية نفذتها الأمم المتحدة العام الماضي، أن 97% من اللاجئين السوريين في الأردن المشاركين في الدراسة لا ينوون العودة إلى بلادهم خلال الـ12 شهرا المقبلة، وأجاب نحو ربع الرافضين للعودة في غضون عام أن لديهم الرغبة في الرجوع لسوريا خلال الخمس سنوات المقبلة.

 

شكلت قضايا السلامة، والأمن، وسبل العيش، والعمل، والخدمات الأساسية، والإسكان في سوريا العوامل الرئيسية المؤثرة على عملية اتخاذ قرار العودة.

 

وتقول المفوضية، إنها لا تشجع أو تسهل عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم في هذا الوقت، مبينة أن موقفها ينبع من “حقيقة أن الأوضاع الحالية في سوريا غير مناسبة لعودتهم الآمنة” مؤكدة أن قرار العودة إلى بلد الأصل هو طوعي تماما.