مرايا – الساعة الثانية ظهراً في 14 مايو/ أيار الماضي، كان الطبيب محمد العديني يجري عمليات جراحية عاجلة ويتابع عشرات الحالات في مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة. وكانت صدمته كبيرة حين وجد شقيقه أحمد ممدداً على سرير يلتقط أنفاسه الأخيرة، ولم تجد نفعاً كل محاولات إنقاذه.

محمد العديني (36 عاماً) طبيب جراحة عامة في مستشفى شهداء الأقصى، يعمل في إطار برنامج الطوارئ في المستشفى في ظل سقوط عشرات آلاف الجرحى منذ انطلاق مسيرات العودة في 30 مارس/ آذار الماضي وحتى اللحظة. عالج مئات الإصابات في الأطراف السفلية، والتي يتعمدها الاحتلال بهدف إعاقة المتظاهرين.

في 14 مايو/ أيار الماضي، بدأ منذ التاسعة صباحاً يعالج مصابين بأطرافهم السفلى وفي الرأس والرقبة والصدر والبطن والوجه. في غرفة الطوارئ، كان يعمل مع طبيبين، وقد اضطروا إلى وضع عدد من الأسرّة الإضافية في غرفة العناية المركزة لاستيعاب حالات أكثر. وحتى الساعة الثانية عصراً، توفي ستة أشخاص على الرغم من محاولة طاقم الأطباء إنقاذهم. لكن رصاص الاحتلال كان قاتلاً. وأجرى 12 عملية طارئة.

كان يقول لزميله إنه في حال استمر تدفق الجرحى بهذا الشكل، سيكون هناك كارثة إنسانية. ثم وصلت حالتان، الأولى لشاب مصاب بطلق في بطنه وقد توفي على الفور. وعندما نظر إلى السرير خلفه لتفقد المصاب الآخر، “إذا به شقيقي أحمد”. يضيف: “كان الأطباء يحاولون إنقاذه. كنت أنظر إليه وأتمنى ألا يكون هو. لكنه هو وهذه ملابسه. كان فاقداً للوعي، وقد ظهر لي أنه توفي دماغياً”.

تسبّبت الرصاصة التي أطلقها القناص الإسرائيلي في تعطيل شريان كبير في بطن أحمد. حاول شقيقه إنقاذه في غرفة العمليات، لكنه نزف كثيراً. وحين استشهد، انهار شقيقه على الأرض ولم يستطع متابعة عمله. لدى الشهيد العديني طفلتان، هما نادين (خمسة أعوام) وسلمى (عامان ونصف العام). يعمل منسقاً للمشاريع المجتمعية مع مركز معا التنموي، وينشط في المبادرات الوطنية المجتمعية مع مجموعات شبابية عدة وائتلافات وطنية. ويذكر الطبيب أن شقيقه يوم استشهاده، كان يداعب ابنتيه ويخبرهما أنه متوجه إلى مسيرات العودة، وسيأخذهما معه حين تكبران.

في عام 2016، أخبر الشهيد العديني شقيقه أن طريق التحرير والنضال الفلسطيني ممكن من خلال خروج المدنيين الفلسطينيين بتظاهرات سلمية على الحدود الشرقية. في العام نفسه، وتحديداً في ذكرى النكبة الفلسطينية في 15 مايو/ أيار في عام 2016، خرج مع أصدقاء ومجموعات شبابية إلى الحدود الشرقية للمطالبة بحق العودة. إلا أن الأمن الداخلي منعهم من التظاهر. عاد إلى البيت وبقيت الفكرة. وفي 30 مارس/ آذار الماضي، تحقق ما كان يتمناه.

يقول الطبيب: “كان أحمد مدافعاً عن مسيرات العودة، ويرفض ما يقال عن فشلها نتيجة سقوط شهداء وجرحى. كان يمازح أصدقاءه، ويقول إنه بعد مسيرات العودة، يود أن يعد وليمة في بلدتنا الأصلية في بئر السبع جنوب فلسطين التاريخية”.

يتحدّر الشهيد من عرب الترابين في مدينة بئر السبع، وهو من مواليد عام 1981 في الكويت، وحاصل على شهادة إدارة أعمال من جامعة صنعاء في اليمن. قبل شهرين من مفارقته الحياة، كان الوالد عبد الله العديني (69 عاماً) يقول إن نجله شغل نفسه لصالح مسيرات العودة.

سبق للشهيد العديني أن أعدّ تلخيصاً لكتاب “فيصل الحسيني أسطورة المقاومة الفلسطينية”، والذي يتحدث فيه عن شخصية وأفكار مسؤول ملف القدس وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الراحل فيصل الحسيني. يقول الوالد إن ابنه كان شديد التأثر بكلماته، أهمها أن “المطالبة بالحقوق يجب أن تكون من خلال اللجوء للحدود مع الاحتلال. وعلى الرغم من أنها ستؤدي إلى سقوط ضحايا، لكن ستجنى ثمرات النصر بعدها”.

ويلفت الوالد إلى أن أحمد كان قد تعرّض لتهديد مباشر على هاتفه المحمول من جنود الاحتلال الذين أخبروه أنه سيكون صيداً ثميناً لهم في الوقت المناسب، لكنه لم يرضخ لتهديداتهم. يضيف: “بعد نصف ساعة من استشهاده، أخبرنا صديقه الذي كان يرافقه في الميدان أن جنود الاحتلال اتصلوا به وأخبروه أنهم اصطادوا أحمد والدور عليه”. يقول والده لـ “العربي الجديد”، والذي ما زال يعاني من انهيار عصبي شديد حتى اللحظة: “شعرت بالفخر بعد استشهاد أحمد، لأنني عرفت أنه كان ينقذ أرواحاً كثيرة إلى جانب الطواقم الطبية، فهو حاصل على دورات في الإسعاف والطوارئ”.