مرايا – يحتفل الأردنيون بجوهر الانجازات الوطنية، استقلال المملكة الأردنية الهاشمية في ذكراه الثانية والسبعين.

وفي ذكرى الاستقلال تطالعنا صفحات مشرقة من المجد والحياة الكريمة ونطالع في هذه الذكرى سفر المجد والعطاء، لنقرأ في صفحته الأولى ملحمة الكفاح والنضال، ونحن ندرك أن الاستقلال مشروع حياة، أراده الهاشميون منذ الملك عبدالله الأول طيب الله ثراه، مفعما بالعطاء الموصول والنهوض الشامل والسيادة المطلقة على امتداد خارطة الوطن والأمة لا يشوبه أي منغصات أو ينتقص من اكتمال معانيه أية معيقات فهو مطلب أحرار الأمة الذين ثاروا ضد الظلم والقهر والاستعباد، ينشدون الحرية التي بذلوا لأجلها دماءهم وأرواحهم وأموالهم.
وإدراكاً وفرحاً بكل معاني الاستقلال، يحتفل الأردنيون في الخامس والعشرين من شهر أيار من كل عام بعيد الاستقلال فتغمر هذه الذكرى المجيدة ربوع الوطن كله بالفخر والإباء، وتملأ النفوس بالبهجة والسرور، ويعيش الشعب أمجاده وذكرياته وتضحيات رجاله في أروع صورها ومعانيها ويستعرض معها سجل تاريخه ومراحل جهاده الحافل بالتضحيات والآمال والعبر والدروس.
وكان الشعب والجيش والإنسان الأردني في أي موقع هو الغاية والوسيلة والطاقة الفاعلة المتجددة التي تشيع النهضة والنماء في ربوع هذا الحمى العربي الأصيل، وظلت رسالة الثورة العربية الكبرى رسالة الاستقلال والحرية والانعتاق من كل القيود التي تقف حائلاً دون طموح الإنسان هي الرسالة التي تهدي السالكين على الدرب الطويل ولا تنفك مبادئها تبشر العرب بالوحدة والحرية والسيادة وكرامة الأجيال.
الاستقلال مطلب إنساني
كانت البدايات منذ أن نهض الحسين بن علي وقاد مسيرة الثورة والتحرير، وتولى أنجاله قيادة جيشها، وهب العرب في كل مكان يؤازرون الثورة ويدعمونها ويشاركون فيها لإنجاحها، وكان لأبناء الأردن دورهم المؤثر في هذه الثورة التي باركوها وشاركوا في مسيرتها على أمل الوصول إلى الاستقلال الذي يشكل حلم أحرار العرب، وما أن انقضت هذه المرحلة وانتهت الحرب العالمية الأولى، حتى بدأ يلوح في الأفق الكثير من المؤثرات ونقض العهود التي قطعتها بريطانيا وفرنسا للشريف الحسين بن علي للحصول على استقلال البلاد العربية، فلم تقف مؤامرات الاستعمار عند حدود ( إصدار وعد بلفور) بل امتدت مطامع هذه الدول المستعمرة واتفقت كلمتها في عقد اتفاقية ( سايكس بيكو) المتضمنة تقسيم البلاد العربية التي تم تحريرها من الانتداب الأجنبي عليها ثم محاولة إخراج الملك فيصل من أول مملكة عربية بعد قيام ثورة العرب نتيجة الهجوم الفرنسي عليها.
وإزاء هذه الظروف والمتغيرات في سير الأحداث أرسل الشريف الحسين بن علي سمو الأمير عبد الله بن الحسين لمحاولة تعزيز موقف الملك فيصل في سوريا وقد وصل سموه إلى معان وكانت القوات الفرنسية قد أحكمت قبضتها على سوريا وبقي سموه في معان حوالي ثلاثة أشهر ونصف الشهر , وفي تلك الفترة توافد على مقره رجالات العرب من كل حدب وصوب مبايعين ومناصرين للحق العربي وللرسالة التي حملها الهاشميون رسالة الثورة والوحدة والحرية والاستقلال.
ثم انتقل سموه بعد ذلك إلى عمان فدرس الوضع فوجد أن المصلحة القومية تقضي التريث والتفكير والتخطيط لما هو آت إزاء ما آلت إليه الأمور في سوريا , وهنا بدأ سموه بتأسيس إمارة شرق الأردن وهو يضع نصب عينيه إبعاد هذا الوطن عن مؤامرات الاستعمار محاولاً الحصول على استقلاله وبنائه على أسس قوية تكفل له الاستمرار والبقاء رغم كل الظروف الصعبة التي كانت تمر بها المنطقة سواء الاقتصادية أم العسكرية أم الاجتماعية فمنذ وصول سمو الأمير عبدالله الأول إلى عمان قادما من معان، وتأسيس إمارة شرق الأردن في عام 1921م واختيار عمان عاصمة لها، وضع نصب عينيه وحدة واستقلال الأمة وتحقيق العيش الكريم لها من خلال دولة حديثة أساسها العدالة والمساواة وقبول الآخر.
وفي فترة قصيرة تمكن المغفور له الأمير عبد الله من إقامة حكومة شرقي الأردن المستقلة واستطاع بذكائه وحنكته وبعد نظره أن يستقطب الشعب والعشائر الأردنية وأن يؤسس دولة فتية مستقرة، وأن يقضي على الاضطرابات والثورات الداخلية مما دفع الحكومة البريطانية إلى الاعتراف رسمياً باستقلال إمارة شرقي الأردن في 25 آذار سنة1923م إلا أن هذا الاستقلال لم يكتمل نتيجة قيام الحكومة البريطانية بالتنصل من وعودها التي قطعتها للأمير عبد الله آنذاك وعقد سموه مع الحكومة البريطانية معاهدة عام 1928م وفي بداية عهد سموه خطى الأردن خطوات هامة في بناء الدولة، ففي عام 1921م تم تشكيل أول حكومة برئاسة رشيد طليع، وفي العام 1928م وضع أول قانون أساسي يحكم البلاد، تلاه في عام 1929م افتتاح أول مجلس تشريعي.
وفي 25 أيار عام 1946م ونتيجة للتطور والتقدم والاستقرار والمطالبة المستمرة من القيادة الأردنية والشعب الأردني انتهى الانتداب البريطاني وأعلن استقلال الإمارة واستبدل اسمها باسم (المملكة الأردنية الهاشمية).
وقد بايع الشعب وممثلوه والبلديات وكل فئات الشعب الرسمية والشعبية الأمير عبد الله ليصبح ملكاً دستورياً على هذه البلاد حيث أعلن جلالته الاستقلال من خلال القرار التالي: «تحقيقاً للأماني القومية وعملاً بالرغبة العامة التي أعربت عنها المجالس البلدية الأردنية في قراراتها المبلغة إلى المجلس التشريعي واستناداً إلى حقوق البلاد الشرعية والطبيعية وجهادها المديد وما حصلت عليه من وعود وعهود دولية رسمية وبناءً على ما اقترحه مجلس الوزراء في مذكرته رقم 521 بتاريخ 15 / 5 / 1946 فقد بحث المجلس التشريعي النائب عن الشعب الأردني أمر إعلان استقلال البلاد الأردنية استقلالاً تاماً على أساس النظام الملكي النيابي مع البيعة بالملك لسيد البلاد ومؤسس كيانها ( عبدالله بن الحسين ) المعظم كما بحث أمر تعديل القانون الأساسي الأردني على هذا الأساس بمقتضى اختصاصه الدستوري، ولدى المداولة والمذاكرة قرر بالإجماع الأمور الآتية:
أولاً: إعلان البلاد الأردنية دولة مستقلة استقلالاً تاماً وذات حكومة ملكية وراثية نيابية.
ثانياً: البيعة بالملك لسيد البلاد ومؤسس كيانها وريث النهضة العربية ( عبدالله بن الحسين ) المعظم بوصفه ملكاً دستورياً على رأس الدولة الأردنية بلقب حضرة صاحب الجلالة ( ملك المملكة الأردنية الهاشمية ).
ثالثاً: إقرار تعديل القانون الأساسي الأردني على هذا الأساس طبقاً لما هو مثبت في لائحة ( قانون تعديل القانون الأساسي ) الملحقة بهذا القرار.
رابعاً: رفع هذا القرار إلى سيد البلاد عملاً بأحكام القانون الأساسي ليوشح بالإرادة السنية حتى إذا اقترن بالتصديق السامي عُدَّ نافذاً حال إعلانه على الشعب وتولت الحكومة إجراءات تنفيذه، مع تبليغ ذلك إلى جميع الدول بالطرق السياسية المرعية).
وقد جاء في كلمة الملك عبدالله المؤسس إعلان البيعة والاستقلال «إنه لمن نعم الله أن يدرك الشعب بأن التاج معقد رجائه ورمز كيانه ومظهر ضميره ووحدة شعوره، بل إنه لأمر الله ووصية رسله الكرام أن يطالع الملك الشعب بالعدل وخشية الله، لأن العدل أساس الملك ورأس الحكمة مخافة الله. وإننا في مواجهة أعباء ملكنا وتعاليم شرعنا، وميراث أسلافنا لمثابرون بعون الله على خدمة شعبنا والتمكين لبلادنا، والتعاون مع إخواننا ملوك العرب ورؤسائهم لخير العرب جميعا ومجد الإنسانية كلها»
التعريب وإلغاء المعاهدة
ومنذ تأسيس الإمارة أدرك مؤسس الأردن بعقله الراجح أن استقلال أي دولة من الدول يبقى هشاً ومهدداً وعرضة للتراجع والاهتزاز إذا لم يكن هناك جيش يحمي هذا الاستقلال ويدافع عنه ويحافظ عليه ويذود عن حمى الوطن، وقد أسس الجيش العربي على مبادئ النهضة العربية وحمل أهدافها وغاياتها وكان هذا الجيش منذ نشأته الأولى حريصاً على المساهمة الفاعلة في بناء الدولة الأردنية وتعزيز قدراتها الذاتية حيث شارك في بناء مؤسسات الدولة في مجالات التعليم والصحة وتعزيز آفاق التعاون والعلاقات الاجتماعية وبناء قدرات الإنسان وتأهيله وبناء الشخصية الوطنية الأردنية التي تنامت قدراتها ومعارفها مع تطور الأردن ليتميز هذا الإنسان بقدراته وعطائه وولائه وإخلاصه لوطنه وأمته.
وحتى يكتمل الاستقلال على أفضل ما يجب أن يكون، تم انجاز الدستور الأردني في عهد جلالة الملك طلال ـــــ طيب الله ثراه ــــــ ليتم بناء مقومات الدولة ومؤسساتها على أسس دستورية وليكون هذا الدستور قاعدة تشريعية لحياة المواطن وموجهاً رئيساً لهذه المؤسسات لكيفية التعامل مع حقوق وواجبات المواطن في دولة يحكمها الدستور الذي ما زالت دول كثيرة تطمح لإحقاقه وإقراره.
ومن ثم عندما تسلم جلالة الملك الحسين رحمه الله سلطاته الدستورية قام بتعريب قيادة الجيش وإلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية والتوجه نحو بناء القوة الذاتية للوطن في المجالات المختلفة حتى أصبح الأردن بإنجازاته الذاتية مثالاً يحتذى في الصبر والبذل والعطاء الموصول المتجدد.
وتتوالى الإنجازات في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني والتي شملت كافة مناحي الحياة حيث ركز جلالته على عنصر الشباب باعتباره العنصر الأهم في قيادة العملية التنموية، وأُطلقت المبادرات الملكية ووضعت الفلسفة الخاصة بالمراحل المختلفة في عملية التنمية، وقُدم الإنجاز والإبداع باعتباره المعيار الأهم الذي نرجع إليه في تقييم عملية التنمية كما راعت المبادرات الملكية الحاجات الأساسية للوطن والمتغيرات العالمية كما وفرت كافة الإمكانات لجعل العملية التنموية فاعلة وقسمت الأدوار على كافة الفئات.
وفي ظل التغيرات المناخية الكبيرة والنقص الحاصل في الغذاء في العالم فلم يغب عن جلالته أهمية توفير الغذاء والدواء المناسب للمواطنين , فجاءت مبادرة جلالته باعتبار عام 2009 عاماً للزراعة كإشارة واضحة لبذل مزيد من الجهد واستثمار كافة الإمكانات المتاحة لتوفير الغذاء اللازم الذي يرسخ الأمن الوطني والاستقرار للوطن، كما شملت هذه المبادرات سكن المواطن وعيشه ووفرت المساكن اللازمة من الإمكانات لمن لا يملكون القدرة على بناء مسكن ملائم لعائلاتهم كما هيأت كل الظروف لبناء مساكن مناسبة لذوي الدخول المحدودة وبذلك جاءت العملية التنموية شاملة.
الجيش العربي يحمي الاستقلال
لقد كان الاهتمام بالقوات المسلحة وتأهيلها وتدريبها وتوفير سبل تعزيز قدراتها أولى أولويات قادة هذا البلد منذ عهد الجد المؤسس حتى آلت راية هذا الوطن إلى جلالة القائد الأعلى الملك عبد الله الثاني الذي أولى القوات المسلحة كل عناية , فهو أدرى باحتياجاتها وقدراتها والقادر على تلمس هذه الاحتياجات , وبتوجيه من جلالته يتطلع هذا الجيش مع كل مؤسسات الوطن لأن يصبح الأردن دولة الإنتاج والاعتماد على الذات وليتمكن هذا الجيش من ممارسة دوره وإنتاج احتياجاته هنا في هذا الوطن العزيز.
لقد أولى جلالته واستكمالاً لما بناه الآباء والأجداد القوات المسلحة أيما اهتمام وهي تمارس دورها الإنساني والريادي وتدخل في مجالات المنافسة على مستوى الإقليم والعالم سواء من خلال أدائها المميز داخلياً وخارجياً أو من خلال احترافها العسكري أو دخولها في مجال التصنيع والتطوير في المجالات الصناعية العسكرية وبالتعاون مع بعض القطاعات الصناعية الدولية والعربية والوطنية من خلال مركز الملك عبد الله الثاني للتصميم والتطوير الذي أنشئ بتوجيهات من جلالة الملك عبد الله الثاني عام 1999 كخطوة على طريق بناء قاعدة صناعية دفاعية مستقلة وذلك في إطار التخطيط لأن يصبح هذا المركز مؤسسة صناعية تجارية تساهم في تلبية احتياجات القوات المسلحة والسوق التصديرية.
وقد قام المركز في الآونة الأخيرة بتطوير عدد من الشراكات الإستراتيجية مع عدة جهات عالمية وعربية وبدأ يشارك في المعارض العسكرية الدولية من خلال عرض صناعته العسكرية التي لاقت قبولاً كبيراً وتم توقيع عدة اتفاقيات مع بعض الدول ليقوم هذا المركز بتزويدها بالآليات العسكرية التي يقوم بتصنيعها بالإضافة لرفد القوات المسلحة ببعض أنواع الصناعات العسكرية التي تلبي حاجاتها الدفاعية والتدريبية, إضافةً إلى افتتاح جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين لمركز تدريب العمليات الخاصة(KASOTC ) الذي يعتبر مركزاً إقليمياً في منطقة الشرق الأوسط بما يمتلك من إمكانيات تقنية وتدريبية وأسلحة ومعدات متطورة تعتمد على التكنولوجيا الرقمية في تنفيذ العمليات ضد الإرهاب ومنفذيه ليصبح نواة فاعلة ومهمة في تقديم كل العناصر اللازمة في ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
وقد جاء هذا التوجه في ظل مراجعة إستراتيجية شاملة وإعادة هيكلة تجريها القوات المسلحة الأردنية بتوجيه ومتابعة من جلالة القائد الأعلى الملك ودخلت القوات المسلحة مجال التنمية الوطنية الشاملة بقوة في مجالات مختلفة وأخذت على عاتقها النهوض بتأهيل وتدريب الشباب الأردني وبناء قدراتهم وتنمية مواهبهم وتدريبهم ليكونوا قادرين على المساهمة الفاعلة وبناء الدولة الأردنية والتي نتطلع إليها جميعاً.
وتسعى القيادة العامة في ظل توجيهات جلالة القائد الأعلى إلى تحويل هذا الجيش إلى قوة عصرية ديناميكية قادرة على التعامل مع مختلف الظروف والتحديات والتخطيط لمستقبلها بكل ثقة وقدرة وكفاءة بما يتفق مع تطلعات القيادة الهاشمية وبما يحقق تميز واحتراف هذا الجيش الذي يملك أفضل أنواع الأسلحة والمعدات ويتمتع بكفاءة قتالية عالية وهو دائماً يسعى للأفضل ويتطلع ليجعل من الاستقلال مسيرة للخير والبناء والعطاء الذي لا ينضب وقد أنجز مع مطلع هذا العام العديد من الفعاليات منها تمرين الأسد المتأهب ومسابقة المحارب ومؤتمر ومعرض سوفكس وسبق ذلك الاحتفال الكبير بالذكرى الخمسين لمعركة الكرامة الخالدة التي سطر فيها نشامى الجيش العربي أروع صور البطولة والتضحية.
ومن جانب آخر فقد دخلت القوات المسلحة الأردنية وبتوجيهات من قيادتها الهاشمية ميدان حفظ السلام العالمي كقوة فاعلة واستطاعت أن تنقل للعالم صورة الجندي الأردني وقدرته على التعامل بشكل حضاري مع ثقافات وشعوب العالم المختلفة وأصبح الجيش العربي الأردني يرفد الدول بالمدربين والمختصين المحترفين في مجال عمليات حفظ السلم والأمن الدوليين كما كان على الدوام يقدم جميع خبراته الإدارية والفنية والتدريبية لكل من يطلبها من جيوش المنطقة والعالم.
إن هذا الجيش هو الذي يستطيع أن يحمي الاستقلال الذي لم يكتمل بصورته النهائية إلا بعد تعريب قيادة الجيش ليصبح القرار السياسي والسيادي الأردني بيد الأردنيين دون غيرهم , ومن هنا تتطور الدولة وتعزز قدراتها الذاتية ومن خلال شعور مواطنيها بهذا الأمن والاستقرار الذي توفره القوات المسلحة يتوجهون للعمل والعطاء والتسابق نحو بناء الوطن في شتى المجالات وتزدهر دور العلم والثقافة وينمو الاقتصاد ويعلو البنيان وتتجذر الديمقراطية ويلتفت كل واحد في مجال عمله وعطائه إلى المزيد من الإنجاز.