المسيحيون العرب .. هُم المعنى الحقيقي لجذور الأرض والوفاء للأوطان

منذُ نشأة الديانة الإسلامية وانتشارها في أسقاع المعمورة، ونشأة الكيانات العربية الحديثة في القرن العشرين، أثبت المسيحيون العرب أنهم جزء لا يتجزأ من الهوية العربية الجامعة، ولم يكونوا غرباء في أرضهم، ولا طيفاً عابراً في تاريخها. ُلدوا من ترابها، وتنفّسوا من هوائها، وشربوا من مائها، فصاروا جزءاً من روحها، كما هي جزء من روحهم. وحين هجمت علينا “إيديولوجيات” الدنيا ونحتت أثُلتنا، وعصفت رياح المستعمرين بالمنطقة، وارتجّت الموازين تحت وقع الغزاة والطامعين، لم يختبئ المسيحي في أبراج الطائفة الضيقة، بل فتح صدره للوطن، وقال: “هذا مكاني، وهنا حياتي، وهنا موتي، وهؤلاء إخوتي”.

لقد علّم المسيحيون العرب أن الوفاء للأوطان لا يُقاس بعدد، ولا يُحدّد بطائفة، بل يُعرف بالموقف حين تشتد العاصفة. ففي اللحظات التي انقسمت فيها الطوائف، أو ركنت إلى حماية الغرباء، ظلوا هم شهوداً على أن الكرامة لا تستورد، وأن الأرض لا تُباع، وأن الوطن أكبر من أي انتماء جزئي. من مصر إلى الشام، ومن العراق إلى فلسطين، كانوا دائماً في الصفوف الأولى، لا يحملون راية الدين بل راية الأرض، ويهتفون باسم الأمة كلها. وحين سقط الشهداء، امتزجت دماؤهم بدماء إخوتهم المسلمين، فلم يعد يعرف القبر من فيه: أهو من رفع الصليب، أم من ردّد الشهادة؟ لقد صار القبر عربياً، والدم عربياً، والقضية عربية واحدة.

فقد كان لهم حضور بارز في حركة النهضة العربية على يد مفكرون كبار، مثل: بطرس البستاني، وناصيف اليازجي، حين أسّسوا للوعي القومي واللغوي الذي جمع العرب، مسلمين ومسيحيين، في مشروع ثقافي وحضاري واحد. ناهيك عن دورهم الكبير في مواجهة الاستعمار، حين لعبت شخصيات بارزة، مثل: جبران تويني ورياض الصلح في لبنان دوراً محورياً في مقاومة ومواجهة الاستعمار الفرنسي والبريطاني. بالإضافة إلى الدور الكبير الذي قام به القيادي المحنك جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي حمل السلاح في وجه الاحتلال الإسرائيلي دفاعاً عن أرض عربية مسلمة ومسيحية معاً، والدور البارز في الثورة الفلسطينية الذي قام به قياديين كبار، مثل: هاني الحسن ووديع حداد، حينما ساهموا في وضع فلسطين في قلب الوعي العربي. ولا ننسى الدور الكبير والعظيم الذي قام به الأقباط في ثورة المصريين في مواجهة الاحتلال البريطاني سنة 1919م، ورفعوا شعار “يحيا الهلال مع الصليب”، تعبيراً عن وحدة الدم والمصير.

وقد تجلى جمال وصلابة موقف المسيحي العربي في أبهى وأعظم وأعزّ صورة، على يد القائد السوري الكبير “فارس الخوري”، في الواقعة الشهيرة التي حدثت أبان الاحتلال الفرنسي لسورية وحاولت استمالة المسيحيين عن طريق الجنرال غورو، الذي أبلغ فارس الخوري بأن فرنسا جاءت إلى سورية لحماية مسيحيي الشرق، فتوجه فارس الخوري إلى الجامع الأموي يوم الجمعة وصعد المنبر مخاطباً المصلين، قائلاً: “إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله”.ولعل ما ذكرته يبقى جزء بسيط من مخزون وأرث كبير وعظيم للمسيحيين العرب مليئ بالمواقف المشرفة والتضحيات، التي تحتاج إلى مجلدات لكتابتها وتوثيقها. 

في الختام .. أود التأكيد على أن المسيحيون العرب لم يطلبوا حمايةً من بعيد، ولم ينادوا بوصاية أحد. آمنوا أن أمانهم هو في حضن إخوتهم، وأن قوتهم هي في اندماجهم مع الآخرين، وأن بقاءهم هو في بقاء أوطانهم. وهكذا، لم تكن العروبة بالنسبة لهم شعاراً سياسياً، بل كانت هوية وجودية وعقداً روحياً جمع بين الكنيسة والمئذنة، بين الجرس والأذان، في نغمة واحدة. واليوم، حين يحاول البعض أن يشكك، أو أن يزرع بذور الانقسام، تكفي شهادة التاريخ لترد: إن المسيحيين العرب ظلوا أوفياء حين تخلّى الأخرون، وظلوا جزءاً من اللحم الحي حين حاول البعض أن يكون خنجراً في خاصرة أوطانه. لقد اختاروا أن يكونوا أبناءً للوفاء، لا أبناءً للمصالح، وأثبتوا أن الانتماء إلى الوطن لا يُترجم ببطاقة تعريف، بل يُترجم بدمعة في وداع شهيد، وبابتسامة في لحظة انتصار.

 

الباحث/ والكاتب/ والتشكيلي

سهم عبيدات