مرايا – لم تدّعِ فيروز يوماً أنها صاحبة التزام سياسي صريح، حتى يتم تعييرها بأنها استقبلت رئيساً أجنبياً من طينة إيمانويل ماكرون، حمل معه وساماً تكريمياً مرموقاً لها. ربما لو كان الأمر بيدها، لما أحبّت أن تكون أصلاً شخصية عامة. حتى عندما غنت “رفيقي صبحي الجيز” و”أغنية المقاومة الوطنية اللبنانية” (المعروفة بـ”خلّصوا الأغاني”)، ظلّ طيف ابنها زياد طاغياً عليهما، إلى درجة أن أحداً من يمين اليمين اللبناني لم ينزعج حقاً من الأغنيتين “الشيوعيتين” من دون لبس، تماماً مثلما لا يتأفّف يساريو اليسار من تراتيل دينية كثيرة تؤديها السيدة بمناسبة ومن دونها. لمَن يكره الصمت الفيروزي حيال القضايا السياسية العريضة أن يبغضه، ولمن يفضل أن تبقى السيدة نقيضاً لمجاهرة ابنها بقناعاته السياسية أن يفعل أيضاً، ففيروز، منذ وُلدت ظاهرتها قبل أكثر من ستين عاماً، فضّلت (هل هو قرار الأخوين الرحباني أساساً؟) البقاء في مناطق محيّرة فعلاً: بعيدة عن الناس وقريبة منهم في آن، تغنّيهم ونادراً ما تظهر عليهم وتخاطبهم. اليميني يعتبرها “مُلكه” بجرعاتٍ زائدةٍ من الوطنية، كذلك يفعل اليساري والعروبي و”اللبناني أولاً”، وقد أسهمت فيروز وعاصي ومنصور ببناء طوابق كثير من وطنيته. المسيحي والمسلم والوطني والأممي، كل منهم قادر على تقديم عشرات الأدلة الدامغة لإثبات رأيه بأن فيروز هي خاصّته هو. حتى عندما نقل عنها ابنها زياد ما قال إنه حبها حسن نصر الله وجمال عبد الناصر، يُقال إن غضبها حلّ عليه سنوات، فحتى لو كان هذا رأيها فعلاً، ربما اعتبرت السيدة أن هذا أمر يخصّها وحدها، وليس لأحد أن يعرف رأيها السياسي أصلاً. هكذا ارتأت فيروز أن تعيش في غموضها، وأن تسمح لنا بمعرفة ما تريد لنا أن نعرفه، وما كنا لنتعرّف على تفاصيل حميمة عن خلافاتها الزوجية الكبيرة مع الراحل عاصي، لولا تبرع زياد بتسريب فصولٍ منها.

ولكن الحال أن فيروز شخصية عامة، حتى ولو شاءت هي أن تكون عكس ذلك. بالتالي، فإن لقاءها رئيس دولة أجنبية، مثل ماكرون، سيكون شأناً عاماً بلا شك، وفرصة لمن ابتهج بالحدث لكي يضيف دليلاً آخر على مصفوفة أدلته للقول إنها تمثل الرأي العام الخاص به، بينما سيسجّل المعسكر الآخر استهجاناً فظيعاً لما يعتبرها خيانةً بحقه من فيروزه هو، فيروز التي اخترع صورتها بنفسه، مثل صورة لبنان الذي اخترعته السيدة وزوجها وشقيقه لنا، فجاء ابنها لهدم صورة البنيان المتخيَّل على رؤوسنا، وعلى رأس فيروز وبلسانها وبحنجرتها. ربما يكون تخيير الناس بين عبادة فيروز أو كرهها، هكذا، بالمطلق، ينمّ عن ثقافةٍ ديكتاتوريةٍ موغلة في عقولنا. ثقافة تمنع انتقاء ما يحلو لك من الصحن، فإما تأخذه كاملاً أو ترميه بكل ما فيه. وفي ذلك استثناء ديكتاتوري كان وقعه أقلّ وطأة في ما يتعلق بظواهر عربية أخرى. كان عادياً جدّاً لأحدهم أن يكون متيماً بأم كلثوم، ثم أن يشتم شخصيتها وعلاقاتها بفاروق ورأيها بعبد الناصر. كان طبيعياً أن يعترف فلان بأن محمد عبد الوهاب أعظم موسيقار عربي منذ سيد درويش ربما، لكن كل ما عدا ذلك زفت بزفت، في سيرته وانتهازيته وغروره وتودّده لكل حاكم، وسعيه إلى احتكار المشهد الفني، ومحاولته منع ظهور من يمكن أن ينافسه في شهرته. كان الزمن يحتمل حرية أكبر في حبّ شخص حيناً، وبغضه حيناً آخر عندما يُقدم على أداء أو سلوك لا يروق لمتلقٍّ ما من جمهوره. وفي فرنسا التي يأتي منها ماكرون، أمكن اعتبار جاك بريل وسيرج غاينسبورغ وإديت بياف ظواهر تاريخية، من دون أن يمنع فعل الأسطرة شتماً وكرهاً واختياراً لما نحب أو نكره في الشخصية نفسها.

لا علم لنا برأي فيروز في “الديكتاتورية” التي فرضها جمهورُها العريض باسمها. ديكتاتورية تمنع عدم محبة شخصيتها و/أو صوتها و/أو أعمالها الفنية و/أو شكلها و/أو نمط حياتها وما يُسرّب من أخبارها. لكن تبقى حرية عبادتها وحرية بغض كل ما يتعلق بها، وما بينهما من اختيار ما نكره وما نحب، المقدّس الوحيد في ما يتعلق بما تفعله فيروز أو تقوله أو تؤدّيه، وبمن تستقبل وبمن تطرد.
العربي الجديد