مرايا – في منتصف يوليو 2018، أخفى مسافر قادم من أريحا عبر جسر الملك حسين زرعات أسنان ولوازمها في حقيبته، في محاولة لتهريبها إلى الأردن، لكنه فشل، وتحفظت السلطات على المضبوطات.
المحاولة لم تكن الأولى. في نهاية 2018، ضبطت السلطات 5120 زرعة سنية مع أدوات حفر خاصة بها، قدرت قيمتها بنحو 111 ألف دينار، وفق ما أكد لبرنامج قناة المملكة الاستقصائي “قيد التحقيق”، مدير مركز جمرك الملك حسين، عميد جمارك، إسماعيل الوريكات.
بعد أيام، أرسلت نقابة أطباء الأسنان كتابا إلى دائرة الجمارك الأردنية، ورد فيه صراحة اعتقاد النقابة أن الغرسات المضبوطة إسرائيلية المنشأ، وأنها تخالف المعايير الطبية السليمة.
لم يكن كتاب النقابة، الذي حصلت “المملكة” على نسخة منه، سوى مؤشر يعكس حجم عمليات تهريب زرعات أسنان عبر جسر الملك حسين.
أكثر ما يثير القلق حيال الزرعات المهربة، هو آلية تعقيمها وطرق تصنيعها المجهولة؛ مما قد يتسبب بأمراض عدة مثل سرطان الفم، أو التهاب أنسجة، في حال لم تكن الزرعات مطابقة للمواصفات والمقاييس الصحية اللازمة، وفق مختصين.
“الزرعات لا تخضع لأي نوع من أنواع الرقابة، وبالتالي لا أحد يعلم تاريخ الإنتاج، أو مكان المنشأ، فحدوث الضرر قد يصبح واردا، أو أن تكون نسبة فشل الزرعة كبيرة؛ مما يؤثر سلبا على المريض عند حدوث أي خلل أو مضاعفات”، يقول الدكتور محمد أبو عرقوب، المختص في جراحة الأسنان.
ويتفق مع هذا الرأي، النقيب السابق لأطباء الأسنان، الدكتور بركات الجعبري. “عندما توضع هذه الزرعة في الفم، لا شك أنها تحدث أضرارا جسيمة قد ترقى إلى التهابات مزمنة، وقد تؤدي إلى سرطانات داخل الفم”.
لا يستهجن الجعبري الطرق المتبعة حاليا في عمليات التهريب، فهو يعود بذاكرته إلى ما يزيد عن 10 أعوام، عندما زاره بعض الأطباء من فلسطينيي 1948، وطلبوا منه إدخال زرعات بشكل قانوني، إلا أنه رفض ذلك واعتبره شكلا من أشكال التطبيع.
الجعبري الذي شغل منصب نقيب أطباء الأسنان، لسنوات عدة يقول: ” لقد اعتمدوا طرقا أخرى لإدخال الزرعات، يقومون بتغليف الزرعات المصنعة لديهم بغلاف، وكأنها مصنعة في إحدى الدول الأوروبية، ثم يقومون بإدخالها بطرق غير قانونية إلى الأسواق”.
التحقيق
يوثق تحقيق “المملكة” قيام سماسرة في الضفة الغربية المحتلة بتزوير بطاقات تعريفية لزرعات أسنان مصنعة في مصانع أسلحة، ومستوطنات إسرائيلية، ومصانع خاصة، على أنها منتجات أوروبية، وإدخالها بطرق غير قانونية إلى الأردن.
مؤسسة الغذاء والدواء تقول، إن السلطات لا تجري فحوصات مخبرية لزرعات الأسنان.
“تُعتمد المواصفات العالمية للشركة المصنعة، وفي حال ورود شكاوى، يُتابع الأمر. دور المؤسسة ينحصر في التأكد من شهادات جودة المنتج الصادرة من الشركة المصنعة في بلد المنشأ”، بحسب المؤسسة.
لكنها أشارت إلى أن أعراض الزرعات غير المعقمة تشمل “فشلا في الزراعة، أو التهابا في الأنسجة في موضع الزرعة”.
يستاء جرّاح الأسنان الفلسطيني، الدكتور محمد الحاج قاسم، من وضع اسم دولة كألمانيا بلداً لمنشأ معظم البطاقات التعريفية المزورة.
“تشتهر ألمانيا بجودة تصنيعها لزرعات الأسنان، وللأسف فإن قيام تجار بتزوير العلبة ذاتها، وتصنيع زرعات في مستوطنات إسرائيلية، وبيعها على أنها منتج ألماني، يضر بسمعة ألمانيا”، يقول قاسم.
صالح العكور، أستاذ أنظمة الهندسة الميكانيكية في الجامعة الأردنية، يرى أن “التقنيات الحديثة في إسرائيل كفيلة بتصنيع زرعات أسنان …لا يوجد مصانع زرعات أسنان في الشرق الأوسط إلا في إسرائيل”.
أبو عرقوب يوضح أن “الإمكانات المتاحة لدى إسرائيل تمكنهم من كتابة اسم العلامة التجارية بحسب رغبة العميل”، فالزرعات التي تدخل إلى الأردن من الممكن أن يكتب عليها صناعة ألمانية، أو سويسرية.
خوض التجربة
أمين سر نقابة تجار المواد الطبية والعلمية والمخبرية، إحسان حسان، يجيب: “من الممكن أن تكون هذه السلعة لا تحمل شهادة جودة، وبالتالي لا يمكن استيرادها من خلال طرق وقنوات رسمية وقانونية، وبالتالي يلجأ البعض إلى التهريب.”
أدوات عدة تتبعها إسرائيل “لاختراق المجتمعات العربية اقتصاديا، تبدأ من خلال السعر والجودة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن السعر للزرعة الإسرائيلية يصل إلى أقل من نصف السعر لبقية الزرعات، نستطيع أن نفهم ما الذي يجري”، يقول حسان.
لم تكتف المملكة بالمعلومات التي حصلت عليها، فقررت خوض تجربة.
وضعت “المملكة” مدينة رام الله، الواقعة على مسافة 60 كم جنوبي جسر الملك حسين، على مجهر البحث والتفتيش بهدف الوصول إلى شبكة من السماسرة والوسطاء وتجار يمثلون حلقة وصل بين مصانع زرعات في إسرائيل، وأولئك الذين يطلبونها خارج الحدود.
استطاعت “المملكة” الوصول من خلال سمسار يدعى غسان (اسم مستعار) إلى صاحب مركز متخصص في زراعة الأسنان يملك علاقات جيدة مع أصحاب الاختصاص في إسرائيل.
بعد أيام، حصلت “المملكة” على موافقة مبدئية لاسم علامة تجارية، وبلد تصنيع للسير في تحقيقها الاستقصائي. في الوقت نفسه، صمم فريق من دائرة الإبداع في “المملكة” غلاف الزرعات المزعومة، تحت اسم “QA” في إشارة مختصرة لاسم برنامج “قيد التحقيق”.
اختار فريق التحقيق أن تكون ألمانيا بلد المنشأ لهذه الزرعة “المزورة”، وأُرسل التصميم لتلك الشبكة، وبعد أيام، وردت رسالة صوتية من السمسار يبلّغ فيها أن غلاف الزرعة جاهز.
وورد في الرسالة الصوتية: “هذا هو التصميم، والكرتونة ستكون بشكل أفضل. لكن هذا عمل يدوي، من أجل أن تطلع على الشكل الذي تريده، وما سنضيف عليه، وما سنقُّص منه”.
توثيق تسلم الزرعة
بعد سلسلة من الاتصالات، وتثبيت مواعيد مع السماسرة، تأكد لفريق “قيد التحقيق” أن جميع عناصر التجربة في طريقها للنجاح، ثُبتت كاميرات سرية في شارع المدينة المنورة.
بالقرب من جسر مشاة، انتظر أعضاء الفريق التاجر القادم من إسرائيل يحمل عينة من الغرسات المتفق عليها، كمقدمة لشراء المئات منها، وخلال دقائق انتهت عملية التسلم بكل سهولة.
بات لدى “قيد التحقيق” غرسة إسرائيلية تحمل علامة تجارية افتراضية، واسم دولة صناعية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بهذا المنتج المهرب. “QA” في الأصل تعود إلى مصنع يدعى “mis”، وهو واحد من أكبر المصانع في إسرائيل، أنشئ عام 1998 في المنطقة الشمالية في شارع هافروف، في الشمال الشرقي من مدينة عكا.
ولمزيد من التأكد، تواصل فريق “قيد التحقيق” مع الشركة عبر حسابها على فيسبوك، وكان الرد بأن لديها مصنعا واحدا فقط في إسرائيل، وأما مراكزها المنتشرة في العالم فهي لتدريب الأطباء فقط.
عام 2016 نشرت دراسة في موقع “واينت”، أظهرت أن أكثر من 100 شركة تعمل في المجال نفسه، وقد بلغت قيمة صادراتها خلال عامي 2013-2014 نصف مليار دولار.
يعتبر قاسم أن ارتفاع صادرات إسرائيل من زرعات الأسنان، وامتلاكها أكثر من عشرين علامة تجارية عالمية تختص بزراعة الأسنان، “أمرا ليس سهلا في عالم زراعة الأسنان”، ويقول، إن هذه الكميات الكبيرة تذهب إلى أسواق خارجية في الهند، تركيا، أوروبا، والولايات المتحدة، وغيرها.
اتصل “قيد التحقيق” بالسفارة الألمانية في عمّان للحصول على تعليق حول أثر تزوير منشأ زرعات أسنان على سمعة واقتصاد المنتجات الألمانية. جاء الرد في بريد إلكتروني أن السفارة الألمانية في عمّان “لا تمتلك معلومات خاصة في الوقت الحالي”، رغم أن “المملكة” أطلعتهم على تجربتها.
عقوبات
جنائيا، التهريب جريمة يعاقب عليها القانون.
وفقا للمادة 206 من قانون الجمارك، يعاقب المهرب أو من هو في حكمه بغرامة لا تقل عن 50 دينارا، ولا تزيد عن 1000 دينار، وعند التكرار بالحبس من شهر إلى 3 سنوات، بالإضافة إلى الغرامة المذكورة، أو بإحدى هاتين العقوبتين، بحسب سمير الجراح، وهو مختص في قضايا الملكية الفكرية.
نقابيا، يترتب على عملية التهريب الكثير من العقوبات؛ إذ يستطيع مجلس نقابة أطباء الأسنان تشكيل لجنة تحقيق، وتحويل الطبيب المتورط إلى مجلس تأديبي وقد يصل الأمر إلى إغلاق عيادته، أو سحب رخصة مزاولة المهنة، كما أكد نقيب أطباء الأسنان، إبراهيم الطراونة.
بعض من يمتنع عن شراء أو تناول خضار وفواكه زُرعت في إسرائيل، قد لا يعلم أن بين فكيه منتج إسرائيلي مجهول. مقاطعة غذاء إسرائيلي قد لا تعني عدم مضغ طعام محلي بأسنان إسرائيلية.
“من تسول له نفسه استخدام زرعات إسرائيلية فهو قاتل، مثل الذين يقتلون الأطفال”، يقول الطراونة.المملكة