مرايا – حالة من الارباك الرسمي، ومشهد من الفوضى ساد الادارة الحكومية التي شهدتها فاجعة البحر الميت على كافة الصعد، حيث التنصل من المسؤوليات، وتبادل الاتهامات، بغية الخروج من الموقف كان طابعا واضحا للحالة الحكومية التي “لم تكن ناضجة لمواجهة الحادثة المؤلمة”.
فوزارات التربية والتعليم والسياحة والصحة والاشغال العامة والاسكان والمياه والري حاولت كل منها النأي بنفسها عن اية تداخلات في القضية، والتي لها جميعها علاقة مفصلية بها.
فمنذ الابلاغ عن مداهمة السيول لرحلة مدرسية في منطقة البحر الميت، بدت حالة من الذعر تسود كافة الاوساط الرسمية، حيث لم تكن هناك خلية أزمة لمعالجة الموقف.
الحجج الجاهزة توالت بأن جغرافية المنطقة صعبة والبنية التحتية غير جاهزة والجو ماطر، فيما اظهر البعض ان منطقة الحادثة عبارة عن جزيرة معزولة تخلو من اية خدمات، رغم انها من ابرز المناطق السياحية، ومصنفة لسياحة المغامرة، وتتبع رسميا لمنطقة البحر الميت التنموية.
الحادثة رغم جسامتها كشفت عن حجم التقصير والاهمال، سواء في واقع الخدمات المقدمة لمنطقة البحر الميت من جهة، او لجهة غياب التدابير التي يجب توافرها بالمنطقة من اجهزة انذار او احتياطات للسلامة العامة.
جسور متهالكة عفا عليها الزمن، ومناطق وعرة كان من الصعب معها انقاذ ارواح ابرياء جرفهم سيل عارم رغم حيوية المنطقة، التي لا تبعد عن منطقة الفنادق الفخمة بضعة كيلو مترات.
البداية كانت من وزارة التربية، التي صبت جام غضبها على المدرسة التي نظمت الرحلة المشؤومة، واخلت مسؤوليتها بالكامل من الحادثة وكأن المدرسة لم تحصل على تلك التراخيص او انها زادت او نقصت في العدد، او انها غيرت اتجاه رحلتها في يوم عاصف لم يكن للوزارة ان تسمح بأية رحلة مدرسية في هذه الاجواء، الا ان ما حصل ان عشرات الرحلات المدرسية كانت سمحت بها في ذلك اليوم دون اي تحوط رسمي.
الوزارة زادت ان الرحلة المدرسية التي جرفت السيول ضحاياها في منطقة البحر الميت خالفت مسارها الموافق عليه، من الأزرق إلى البحر الميت، وان منظم الرحلة يتحمل بالكامل مسؤولية ما جرى، وقالت ايضا أن المدرسة “خالفت كذلك جميع التعليمات التي نص عليها كتاب الموافقة بمراعاة شروط الأمن والسلامة العامة، والالتزام بتعليمات الرحلات ومنع الطلاب من السباحة والابتعاد عن المناطق الخطرة”، ليعلن وزير التربية عن عزم الوزارة فتح تحقيق شامل للوقوف على حقيقة ما جرى.
اما وزارة السياحة، التي تنصلت هي الاخرى من مسؤوليتها، فاعتبرت في تصريحاتها الاولية ان منطقة البحر الميت ليست من المناطق السياحية، وانها لا تصلح لسياحة المغامرة، وهو ما تخالفه نشرة هيئة تنشيط السياحة التي ادرجت البحر الميت لسياحة المغامرة ووجهة سياحية بأمتياز.
المعطيات تشير الى ضعف المتابعة الرسمية للمناطق السياحية من جهة، وضعف رقابة الوزارة ايضا على الشركات المنظمة للرحلات السياحية، والشركة التي نظمت الرحلات لم تتفق مع هذه المدرسة فقط بل سبقتها اتفاقات مع مدارس اخرى وفقا لمعلومات .
المعلومات المتسربة تشير الى ان وزارة السياحة كانت انذرت الشركة المنظمة قبل اسبوع من الفاجعة، بيد ان ضعف المتابعة للشركات السياحية واليات تنظيم البرامج الترفيهية السياحية، جعل هذه الشركات تعمل دون رقابة او تقييم او تصنيف لاعمالها. هذا بالاضافة الى ان الادلاء السياحيين الذين رافقوا الرحلة غير مرخصين.
الوزارة قالت على لسان وزيرتها لينا عناب أنها وضعت شروطا وتعليمات للرحلات السياحية الى الوديان وعممتها على جميع المكاتب والشركات السياحية منذ العام 2014.
وقالت عناب إن أهم هذه الشروط “هي العمر، حيث يجب ان لا يقل عمر المشارك في الرحلة عن 18 عاما، اضافة الى ان هذه الوديان ممنوعة من الزيارة خلال فصل الشتاء”.
واشارت الى ان هذه الشروط تنطبق على كافة الوديان في المملكة ومنها التابعة للجمعية الملكية لحماية الطبيعة، مبينة انه في عام 2013 صدر قرار باغلاق نحو 8 مناطق سياحية خطرة، ومنها وديان، الا انه بعد وضع التعليمات والشروط لها في عام 2014 تم اعادة فتحها.
وفيما يتعلق بالرحلة المدرسية محل الفاجعة، أشارت عناب الى ان الرحلة المدرسية كانت بالتعاقد مع شركة سياحية مرخصة من قبل الوزارة وتخضع لشروط وتعليمات السياحة، الامر الذي يكشف عن مخالفة واضحة وصريحة من قبل شركة السياحة. وكشفت عن تعاقد الشركة المرخصة مع شركة أخرى غير مرخصة بالباطن.
وزارة المياه وتحديدا سلطة وادي الاردن، التي نالت حظا وافرا من الاتهامات عبر شائعات بأن كميات كبيرة تسربت من سد الزرقا ماعين الذي يبعد نحو 20 كيلو مترا عن المنطقة التي حدثت فيها الفاجعة واغرقت المنطقة ومن بينها الرحلة المدرسية.
الشائعات التي تداولها رواد التواصل الاجتماعي كانت قوية وادرجت من خلالها فيديوهات ومقابلات تلفزيونية تشير الى وجود خلل كبير في السد واتهامات واضحة لمديرية السدود في السلطة بالحادثة. وهذا ما نفته وزارة المياه والري والسلطة نفسها معتبرة ان الاشاعات لا اساس لها من الصحة.
وقال أمين عام سلطة وادي الاردن بالوكالة علي الكوز أن مخزون سد الزرقاء – ماعين وصل حتى صباح السبت الماضي لنحو400 الف متر مكعب، مشيرا الى أن السد فارغ من شهر اب (اغسطس) الماضي ولم يسجل أي تخزين للمياه قبل تاريخ الخامس والعشرين من الشهر الجاري.
وزاد ان لا صحة للمعلومات المتداولة بأن سلطة وادي الاردن قامت بتفريغ مياه السد بعد الهطول المطري الاخير الذي أثر على المملكة من خلال فتح بوابات السد وذلك لان السد لا بوابات له و كان فارغا، ولم يكن فيه تخزين اصلا قبل امطار الخميس الماضي.
ولفت الى ان المعلومات التي تحدثت عن تصريحات سابقة له “هي تصريحات قديمة وقبل بدء اللجنة الوطنية المختصة بتفقد سلامة السدود التي تقوم بتفقد سلامة السدود الـ14 وتم إعلام المقاول الذي بنى السد بملاحظات وقام تنفيذها قبل بدء التخزين في السد والتأكد من تنفيذ الملاحظات كاملة”.
وشدد على ان تصميم السد لا يتضمن بوابات بالاصل، ويتم تصريف المياه من خلال انبوب يتسع في طاقته القصوى الى متر ونصف في الثانية، وهذا الجريان لا يشكل اي خطر في الوادي لانه مصمم على ذلك لاخذ احتياطات السلامة العامة.
ودعا الكوز الى التحقق من المعلومات وعدم الانجرار وراء الشائعات التي تضر بالعمل العام وتشيع اجواء من عدم الثقة والتشكيك.
الحالات المصابة والوفيات نقلت الى مستشفى الشونة الجنوبية ومستشفيات البشير والحسين في السلط ومدينة الحسين الطبية فيما نقلت الجثامين الى المركز الوطني للطب الشرعي.
وزير الصحة د. غازي الفايز استنفر كافة القطاعات الطبية، الا انه ورغم الحالات الكثيرة، فقد خلا مستشفى الشونة من اطباء الاختصاص او جراحين وتم نقل طبيبين مقيمين من كادر مستشفى البشير الى مستشفى الشونة لمساعدة الطواقم الطبية هناك. فيما لم يكن في مستشفى الشونة سوى طبيب مقيم واحد وفقا لمعلومات مؤكدة من وزارة الصحة.
ويبدو ان طبيعة الاصابات، من سحجات وكدمات وكسور لم تكن تحتاج الى عمليات جراحية، باستثناء حالة واحدة اجريت لها عملية جراحية صغرى.
المشهد كان مربكا ايضا في المركز الوطني للطب الشرعي، فدخول 20 جثمانا يبدو انه اربك المركز وحصلت عملية تبديل جثمانين تعودان لطفلتين ضحيتين، وهي قضية اثارت بلبلة وحزنا كبيرا لدى اهالي الطفلتين، حيث بقيت احداهما في مشرحة المركز حتى اثبتت فحوصات الصبغة الوراثية “دي ان ايه” صدق رواية الاهل، لتنهتي القصة بمؤتمر صحفي بوقت متأخر من اول من امس ويعترف مدير المركز بخطأ تم بتبديل الجثث.
حادثة تبديل الجثث تعكس حالة المشهد برمته، فقد كان مربكا وتبدلت فيه الادوار، وكان واضحا ان المهم لدى الكثير من المسؤولين ان ينأى كل واحد منهم بنفسه عن المسؤولية ويلقي باللائمة بهذه الحادثة المؤلمة على زميله او زملائه!
المشهد الاعلامي ايضا كان برمته مربكا، والمعلومات لم تكن منظمة، فقد افتقدنا لخلية للازمة، وجاءت التصريحات من جميع الاطراف لكن المضمون كان مختلفا.
فرئيس الوزراء ووزراء السياحة والتربية والتعليم والمياه، فضلا عن وزير الصحة ومختلف الجهات، كانت تدلي بتصريحات ومعلومات على مدار الساعة. الا ان التصريحات كانت مقتضبة، وتنقصها الدقة.
حالة من الهلع والقلق تبعت تصريحات المسؤولين لدى ذوي المتوفين والمصابين، ممن كانوا حائرين لا يعلمون الى من يذهبون للحصول على المعلومات.
عمليات البحث شهدت انتقادات كبيرة لعدم وجود المستلزمات لهذه الحالات فالاضاءة في المنطقة كانت ضعيفة ووعورة المنطقة صعبت على عمليات الانقاذ، لانعدام الوسائل اللوجستية، رغم التصريحات الرنانة التي كانت ترد عن المسؤولين وكانت فقط لغايات ضبط النفس واحلال الهدوء.
المعلومات كانت شحيحة على اصحاب الاختصاص، واستبدلوا المعلومات بعبارات التهديد والوعيد للمدرسة او المقصرين، انّى كانت صفتهم، وكأنهم كانوا ينتظرون من يعلق الجرس، ويعلن مسؤوليته عن التقصير او الاهمال وهو ما لم يحصل.
وزيرة الإعلام الناطق الرسمي باسم الحكومة جمانة غنيمات اعلنت ان المسؤولية على المدرسة وشركة المغامرات وابرأت ساحة المؤسسات الرسمية، والوزراء تنصلوا من مسؤولياتهم وراجعوا تعليماتهم وكتبهم وتوقيعاتهم، وبتوا في الامر قبل تشكيل لجنة او احالة الامر الى القضاء ليقول كلمة الفصل فيها.
وهنا تدخل رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز وقرر تشكيل لجنة للوقوف على حيثيّات الحادثة برئاسة نائب رئيس الوزراء الدكتور رجائي المعشّر، وضمّت في عضويّتها وزراء العدل، والداخليّة، والتربية والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، والصحّة، والشؤون البلديّة، والسياحة، والدّولة للشؤون القانونيـّة، والدّولة لشؤون الإعلام، والأشغال العامّة والإسكان.
وكلّف رئيس الوزراء اللجنة بتقديم تقرير شامل حول جميع التفاصيل المتعلّقة بالحادثة، ليتسنّى للحكومة الوقوف عندها، واتخاذ التدابير اللازمة بشأنها.
كما وجّه رئيس الوزراء اللجنة إلى مراجعة أسس وشروط ومعايير الرحلات المدرسيّة، وتقديم التوصيات والمقترحات لتحديثها وتشديدها بما يضمن سلامة الطلبة، بالإضافة إلى وضع أسس واضحة ومعلنة لسياحة المغامرات.
وأوعز إلى اللجنة بتقديم تقرير مفصّل وشامل حول أوضاع الجسور والمنشآت العامّة والبنية التحتيّة في مختلف مناطق المملكة، بالإضافة إلى تقديم توصيات لدراسة وضع نظام إنذار مبكّر للتعامل مع الكوارث الطبيعيّة.
تشكيل اللجنة اثار تساؤلات عديدة، اذ كيف تكون اللجنة حكومية وتتحقق من دور عدد من المؤسسات الرسمية في الحادثة.
الانتقادات جاءت صريحة اذ قال نقيب الاطباء علي العبوس “دولة لرئيس، تشكيل لجنة من الحكومة للتحقيق في اداء الحكومة فيما يخص كارثة الرحلة! .. أين دور مؤسسات المجتمع المدني؟”.
هذه التساؤلات لم تجد اذانا صاغية غير ان الرئيس الرزاز اوعز الى وزير الاشغال العامة تشكيل لجنة من نقابتي المهندسين والمقاولين لاعداد تقرير عن الجسور وحالتها.
الانتقادات ايضا جاءت من مسؤولين سابقين ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي لتشكيل اللجنة، حيث تساءلوا الى “اي مدى ستكون اللجنة شفافة في نتائجها؟!”. نائب رئيس الوزراء المعشر أكد على ان اللجنة لن تحابي احدا وستكون دقيقة وشفافة في نتائجها.
الحادثة التي فتح فيها تحقيق قضائي من قبل مدعي عام الشونة الجنوبية عاد لينتقل الى مدعي عام عمان لاستكمال التحقيق بناء على طلب من رئيس النيابات العامة فضلا عن لجنة برلمانية للوقوف على تداعيات واسباب الحادثة التي اودت بحياة 21 شخصا واصابة العشرات.
مدعي عام الشونة الجنوبية طلب الى وسائل الاعلام منع النشر في حيثيات وتفاصيل القضية، وهو ما اثار الرأي العام ووسائل الاعلام والتي اعتبرت ان القضية قضية رأي عام، ولا بد من الخوض في تفاصيلها بعد تنصل كافة الجهات الرسمية من مسؤولياتها.
التدخل الملكي كان قويا، فقد تابع جلالة الملك المشهد والغى زيارة كانت مقررة لمملكة البحرين لمتابعة الحادثة، فيما عقد جلسة برئاسته لمجلس السياسات الوطني.
الملك بدا متألما حزينا وغاضبا وكان حزنه يعلن الحرص على محاسبة من قصر بواجبه ومن كانت له اية بصمة في حادثة البحر الميت. جلالته كان حريصا على مواساة ابناء شعبه وتعزيتهم بالمصاب الجلل، ولكنه كان اشد اصرارا على تسلم تقرير مفصل بالحادثة ليقف الجميع امام مسؤولياته.
الراهن اليوم، ان الادارة السياسية لهذه الازمة، والفاجعة التي المت بالوطن، عكست غياب الرؤية الواضحة والفريق الحكومي المنسجم، واظهرت ان بعض المسؤولين كان همه قبل دعم جهود الانقاذ والاخلاء للضحايا والمصابين بالحادث الاليم وابداء التعاطف مع الاهالي المكلومين، هو القاء المسؤولية جزافا عن ظهره الى زميل له او جهة اخرى، فيما شكلت واقعة الخطأ بتسليم جثماني طفلتين ضحيتين، وبعد دفن الاولى من قبل عائلة زميلتها، عنوانا واضحا وفاقعا للتخبط والاهمال الحكومي بادارة كل ملف هذه الازمة!.
نقلاً عن الغد