مرايا – يَمثُلُ ملف الفقر أمام الحكومات، بشكل دائم؛ لكن هيئة المثول هنا، ليس كمتهم كما جرت العادة، بل على العكس، كضحية لإهمال حكومات جاءت وغابت، ولم تحرك هذا الملف الحساس، والذي يعد من أخطر الملفات وأكثرها وجعا وأرقا على المستوى اليومي الإنساني.

فبعض الحكومات تتعامل مع ملف الفقر ببيروقراطية وظيفية فترهق نفسها بإعداد استراتيجيات الفقر، وتنسى الفقراء، بعيدا عن كلف المستشارين واللجان التي تستنزفها تلك الاستراتيجيات، فيما حكومات أخرى لا تلقي لهذا الملف بالا، ويبقى الفقراء بين النسيان والتجاهل على قارعة الانتظار بلا أمل.

بل إن الحكومات لم تعد تُعنى بعدد الفقراء، بقدر عنايتها باستراتيجياتهم، حيث تشير الوقائع إلى أن آخر إحصائية رسمية للفقر كانت في العام 2010، وقد بنيت على مسح دخل ونفقات الأسر الذي أنجز في 2008 أي أنّ الأرقام التي تمّ استنباطها تعود إلى 2008.(سنة الأساس) فيما تمّ الإعلان عنها في 2012.

هو ملف حاضر غائب، إذ يحضر في الاستراتيجيات ويغيب على أرض الواقع، ورغم إعلان العديد من الاستراتيجيات والسياسات لمحاربة هذه الظاهرة إلا أنّ معدلاتها باتت ترتفع خلال الأعوام الأخيرة إلى أنّ وصلت إلى حوالي 20 %، بحسب تقدير مقتضب ذكر في خطة التحفيز الاقتصادي.

وهو ما يقتضي مرحلة ما بعد الاستراتيجيات، تنشل الفقراء من “جيوبهم”، وتخلصهم من ربقة الفقر ووعثاء الحال، التي طال أمد بقائهم فيها.

وفي 2010 أعلنت الحكومة أنّ معدلات الفقر في المملكة وصلت إلى 14.4 %، وأن مجموع الأقضية التي صنفت كجيوب للفقر قدرت بـ 27 قضاء. وقد كانت نسبة الفقر ستصل إلى 17 % لولا المساعدات المقدمة من المؤسسات الحكومية لبعض الأسر، كما أنّها قد تصل إلى 15.8 % لولا تدخل صندوق المعونة الوطنية وحده. وقد قورنت هذه الأرقام بمعدلات الفقر التي أعلنت في 2008؛ حيث بلغت نسبة الفقر 13.3 % وضمت 32 جيب فقر.

وبعد 2010 لم يتم الإعلان عن أرقام حديثة للفقر، واكتفت الحكومة بالتعريج على أنّ نسبة الفقر في المملكة قدرت بـ20 % في “خطة التحفيز الاقتصادي”، وهي تقديرات على الأغلب بنيت على مسوحات لدخول ونفقات الأسر لعام 2014 دون إعلان أي تفاصيل أخرى. وحددت مناطق “ذات خصوصية تنموية بحاجة إلى تدخلات حكومية” بدلا من جيوب الفقر والتي حددتها بـ35 قضاء”.

ويوجد في المملكة اليوم 6212 ألف أسرة “غير آمنة غذائيا”، فيما هناك 71347 ألف أسرة أخرى تصنف تحت اسم “هشة غذائيا”، وتقدر هذه الأرقام أنّ 0.5 % من إجمالي الأسر في المملكة غير آمنة غذائيا، فيما 5.7 % من أسر المملكة هشة نحو انعدام الأمن الغذائي.

ويرى خبراء اقتصاديون أنّ ظاهرة ارتفاع معدلات الفقر في المملكة هي نتاج للسياسات الحكومية الاقتصادية الخاطئة وللعلاجات التي حددت لمحاربة هذه الظاهرة، فيما يؤكدون ضرورة أن يكون هناك خطط متخصصة لمحاربة جيوب الفقر توضع من قبل فرق محلية دون الحاجة لمنظمات دولية واختصار حلقات الوصول إلى الفقراء.

ويشير وزير تطوير القطاع العام الأسبق الخبير الاقتصادي، د.ماهر المدادحة، إلى أن “الفقر” مصفاة كل السياسات الاقتصادية، فهو نتاج مباشر للسياسات الاقتصادية، وزيادته دليل على ضعف وفشل هذه السياسات.

وهو يرى أنّ السياسات الأخيرة التي اتبعتها الحكومات الأخيرة من تقشف، ورفع للدعم وزيادة الضرائب أدى الى تآكل الطبقة الوسطى، وانزلاق عدد ممن هم فوق خط الفقر الى تحت خط الفقر.

وتشير أرقام مسح دخل ونفقات الأسرة الأخير 2013/2014 إلى أن حوالي 27.8 % من المجتمع هم من الطبقة الوسطى فيما 29.9 % من المجتمع من طبقة الدخل المحدود، وتبلغ نسبة الطبقة الفقيرة والمعرضة للفقر 23.2 %، وهي أرقام توصلت  بالقياس على نسب الفقراء وذوي الدخل المحدود في الدراسات السابقة.

ويقترح المدادحة في معالجة هذه المشكلة عدة حلول من بينها عمل شبكة أمان اجتماعي لدعم ممن هم فوق خط الفقر وما دونه من خلال دعم قطاع الصحة والتعليم والتأمينات وزيادة دخولهم بشكل مباشر لانتشالهم من السقوط إلى الفقر.

وأضاف أنّه لا بدّ من تمكين الفقراء في العمل والتوسع في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، خصوصا مع عدم وجود منظومة للتسهيلات المالية تدعم هذا القطاع، مؤكدا ضرورة أن يتم العمل في هذا المجال من خلال أساليب غير تقليدية وأن يتم تحديد هيئة مستقلة كأن يكون “وزارة تنمية محلية” قادرة على تقديم النصح والإرشاد لمثل هذه المشاريع وإدامتها بحيث تكون كـ”حاضنات أعمال”.

واقترح المدادحة أن يكون هناك تركيز أكثر على الميزة التنافسية” لكل محافظة بحيث يتم إنشاء مشاريع في هذه المحافظات بناء على الميزة النسبية والتي من بينها زيادة التوظيف خصوصا من الطبقات الفقيرة”.

كما أكد ضرورة أن يكون هناك توصيف واضح للفقر ومسبباته ومن هم منسبين تحته، وإيجاد قاعدة بيانات حديثة عن الفقر مع سهولة الوصول لها مع تشكيل فريق عمل فني قادر على التعامل مع الفقر.

وكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي أشار في دراسة سابقة له بعنوان: “أثر القرارات الحكومية الضريبية في شباط (فبراير) 2017 على نمط إنفاق الأسر” تغير أنماط الإنفاق لدى الأسر ذات الدخل المنخفض والقريبة من خط الفقر وتحته، مشيرة إلى أنّ 49 % ممن يعيشون تحت خط الفقر تخلو عن شراء بعض المواد.

وأشارت الدراسة إلى أن هذه الأسر تأثرت بصورة أكبر من غيرها فيما يتعلق باستبدال بعض السلع بأخرى ضمن أنماط إنفاقهم لمواجهة ارتفاع أسعار بعض السلع.

وأكد أستاذ الاقتصاد، د.قاسم الحموري، أنّ على الحكومة أن تتخذ إجراءات من شأنها أن تحل مشكلة الفقر من جذورها؛ حيث لا بدّ من تشخيص الفقر بشكل علمي من خلال الزيارات الميدانية من قبل فرق متعددة التخصصات (علماء اجتماع واقتصاد وانثروبولوجي) لتشخيص الفقر في بعض المناطق.

ويقترح الحموري وضع طرق للمعالجة تركز على تمكين وتأهيل الأسر الفقيرة، مع مراجعة الاجراءات والحصول على تغذية راجعة من أجل إجراء التعديلات المناسبة.

وفي المراحل الأخيرة يرى الحموري أنّه يتم تعميم هذه التجربة على باقي المناطق الفقيرة في حال نجاح هذه التجربة على مناطق معينة، مع التركيز على سلوك الفقير وقيمه ومعتقداته أكثر من التركيز على دعمه الدعم المباشر.

وتجري دائرة الإحصاءات حاليا مسح دخل ونفقات الأسرة 2017/2018، ومن المتوقع إعلان نسب الفقر في المملكة مع نهاية العام الحالي، مع الإشارة إلى أنّه تم اعتماد منهجية جديدة في حساب أرقام الفقر.

ويرى الخبير الاقتصادي، د. مازن مرجي، أنّ مشكلة الفقر التي تكرست مع السياسات والبرامج الاقتصادية لا يمكن حلها إلا من خلال العودة إلى جذور مشكلة الفقر.

واقترح مرجي أن يكون هناك فرق متخصصة محلية تقوم بزيارات ميدانية إلى جيوب الفقر وتضع برامج عمل منسجمة مع المجتمعات المحلية سواء كان من خلال تمويل مشاريع كبيرة أو دعم مشاريع صغيرة ومتوسطة.

وأكد مرجي ضرورة أن يتم استثناء الجهات الأجنبية من هذه المشروع؛ حيث أنّ “معظم الدعم الذي يذهب للفقراء يذهب الى الاستشارات والدراسات”؛ بحيث يتم تخفيف عدد الوسطاء واختصار حلقات الوصول إلى الفقراء.

يشار إلى أن البنك الدولي أشار إلى أنّ “ثلث الأردنيين معرضون أن يقعوا ضمن خط الفقر خلال سنة، إذ يؤثر ارتفاع تكاليف الطاقة والنقل بشكل كبير على الخُمس الأدنى من الأُسَر المعيشية”.

ويشير البنك الدولي إلى ظاهرة “الفقراء العابرون” وهم أولئك ممن يختبرون الفقر لـ 3 أشهر في السنة أو أكثر وتبلغ نسبتهم 18.6 %، بينما الفقراء الذين يبقون فقراء طول السنة تبلغ نسبتهم 14.4 %، فيما يبلغ مجموع الفئتين 33 % (ثلث الأردنيين). التقرير الذي صدر منتصف العام الماضي؛ كان أكد أن ثلث السكان في الأردن عاش دون خط الفقر؛ أقله خلال ربع واحد من أرباع السنة.