مرايا – كتب: رئيس الوزراء السابق عمر الرزاز
“من أين نبدأ كمواطنين؟” سؤال يبدو بسيطاً لأول وهلة، ولكنه شديد الأهمية والخطورة، طرحته شابة أردنية ناشطة في جدل دار على إحدى منصات التواصل الاجتماعي حول جدوى الأحزاب والعمل الحزبي. هذا السؤال، على بساطته، يعبر عن المأزق الذي يجد الشباب الأردني نفسه فيه.

جوابي على السؤال الشبابي “من أين نبدأ كمواطنين؟”. لقد بدأتم! ربما لا تلحظون ذلك بسبب كثرة العقبات في طريقكم. ولكن المعيار ليس حجم العقبات وعددها، وإنما تصميمكم على الوصول إلى المواطنة الناجزة الفاعلة التي يتحدث عنها جلالة الملك في أوراقه النقاشية، وتصميمكم على مساءلة أصحاب القرار من الان، حتى وإن كانوا ليسوا منتخبين.

لماذا الشباب تحديداً؟ وكيف يسعى الشباب إلى إحداث التغييرات المطلوبة في التشريعات؟

لماذا الشباب؟ لأنهم فرصتنا الأكبر وتحدينا الأعظم. هذا “الخزان” الشبابي سوف يولد طاقات هائلة من الابداع والانتاج والقدرة على حل المشكلات. ولكنه لا سمح الله سيولد طاقات هدامة إذا بقي موصداً. هم الفرصة لأنهم الأقدر على فهم ومحاكاة التغيرات التكنولوجية والجيوسياسية التي تفرض نفسها على العالم أجمع. وهم شهدوا ما تم إنجازه في المئوية الأولى للدولة، وهو كثير، وهم حريصون على الحفاظ على هذا الانجاز، وخصوصا وهم يشاهدون مآلات دول في المنطقة تنهار وتتناحر. ولكنهم يرون الثغرات أيضا وليسوا مقتنعين بأن “ليس بالإمكان أكثر مما كان”. والأهم من هذا وذاك أنهم هم من سيرث الثلث الأول من المئوية الثانية ويمهدون الطريق للأجيال القادمة. ولكنهم أيضاً يشكلون التحدي، بل الخسارة الأعظم لأنفسهم وللمجتمع والوطن، إذا أصابهم الإحباط ووصلوا إلى حالة اليأس (ولهذا الحديث بقية في مقال لاحق).

أما في كيفية الوصول الى المواطنة الفاعلة، فغني عن القول اننا لم نصل بعدـ وأن علينا ان نعي الواقع المعاش بأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. نعم إنها مفارقة، بأن نعترف بالواقع، ولكن نمارس حقوقنا وواجباتنا وكأننا وصلنا الى المستقبل. ولكنها الوسيلة الوحيدة لدفع عجلات التغيير. فالمحصلة على أرض الواقع ليست فقط ما تنجزه حكومة ما من برامج على أهميتها، أو ما ينجزه برلمان ما من تشريعات على أهميتها أيضاً. المحصلة الحقيقية هي جهود كل مواطن ومواطنة لممارسة المواطنة الفاعلة على أرض الواقع.

“ألن نكون خارجين على القانون بممارسة المواطنة الفاعلة التي نصبوا إليها؟” سؤال آخر يطرحه الشباب. لا، ما يحد من المواطنة الفاعلة التي تحترم حرية وحقوق الآخرين ليس الدستور ولا القوانين وحدها (على أهمية تطويرها كما يجري الان). ما يحد من المواطنة الفاعلة هو خليط من أنظمة وتعليمات وممارسات بيروقراطية تراكمت على مدى المئوية الأولى، قد تكون قد خدمت الدولة في مئويتها الأولى ولكنها أدوات ليست جميعها صالحة لإدارة الموقف في المئوية الثانية. مقابل هذا الخليط البيروقراطي تشكل خليط من الخوف والعزوف واللامبالاة والتشاؤم وفقدان الثقة المجتمعي.

وكل منهما، البيروقراطي والمجتمعي، يغذي استمرار الحال على حاله. طبعاً تطوير الدستور والتشريعات كما حصل في مخرجات اللجنة الملكية ضروري لتحديث الحياة السياسية وزيادة مشاركة الشباب والمرأة. ولكنه لا يتعارض مع القدرة على ممارسة المواطنة نحو مواطنة فاعلة ناجزة.

هذا لا يعني أن الشباب الفاعل لن يصطدم بالواقع، كالأحداث التي نشاهدها بين الحين والآخر، فمؤخراً تلقى الشباب الأردني قبل شهر تقريباً رسائل حول حرية التعبير والمشاركة في الحياة السياسية بدت متضاربة، بل متناقضة! هل المقصود بالمشاركة في الحياة السياسية ان تقتصر على المشاركة في الانتخابات مرة كل اربع سنوات. ان كانت كذلك، فلا داعي لتغيير أي قانون أو ممارسة، ونكتفي بمعدلات مشاركة لا تصل حتى نسبة ثلث الناخبين.

وإن كانت تعني المشاركة بمعناها الواسع مع مراعاة الاحترام الكامل لسيادة القانون وحريات الآخرين والمرافق العامة، فهذا ما مارسه الطلبة في حرم الجامعة: مارسوا مواطنتهم الفاعلة. الأوراق النقاشية الملكية وكتاب تكليف اللجنة الملكية جميعها واضحة حول أهمية المشاركة الواسعة للشباب والمواطنة الفاعلة.

المطلوب في حالات التناقض والتعارض ليس تبرير ما حدث، ولا التغاضي عنه، وإنما الإشارة الواضحة بأن الإجراءات التي تم اتخاذها لا تنسجم مع توجه الدولة قيادة وشعبا نحو تحديث المنظومة السياسية. والعمل فورا على تعديل التعليمات والإجراءات لتوضيح الأدوار الجديدة والمختلفة للحكام الإداريين في الميدان وعمداء شؤون الطلبة في الجامعات.

وما ذكر ينطبق حتى أكثر على القضايا الي تمس السيادة الوطنية والأمن الوطني والاعتماد على الذات وهيكلة الدولة وفصل السلطات. هذه القضايا تتطلب حوارات وطنية موسعة تحدد الكلف والمخاطر طويلة الأمد والبدائل المتاحة ووضعها في متناول المواطنين والسلطة التشريعية الرقابية.

نعم لقد بدأتم! استمروا ولا تنتظروا من يأذن لكم بالمواطنة، فهي حق لكم، وهي أكثر بكثير من صندوق اقتراع. المواطنة الحقة هي مواطنة فاعله، هي ثقافة متمثلة بأدب الحوار وقبول الآخر وممارسة الحقوق كما الواجبات اتجاه الوطن والمواطن. يوماً ستصبح مواطنة فاعلة وناجزة، في إطار ديمقراطية فاعلة وناجزة وراسخة، تختارون فيها ممثليكم، وتساهمون بكل طاقاتكم في العمل والإنتاج وتحديد الوجهة.

لا جيل يلغي جيلا، ولا استئثار من جيل على جيل. فالمجتمع الحي كالشجرة الوارفة الحية الضاربة جذورها في الأرض. الشباب هم الأغصان اليانعة لهذه الشجرة، مرتبطون بأغصان صلبة مرتبطة بالجذع المرتبط بالجذور. الأغصان اليانعة هي التي ترى الشمس، وترى مسارها، وتبزغ بأوراق خضراء تقتنص نور الشمس اقتناصاً. الأغصان الصلبة والجذع العريض تضمن المنعة في الشدائد وتحتفظ بالذاكرة، والجذور تمد الشجرة كلها بالغذاء. فلا مستقبل لشجرة بدون ذاكرة وبدون غذاء.

فلكل منا دوره. فلنمارس دورنا، ولنعطي الشباب المنعة والذاكرة والغذاء، ولنترك لهم المساحة والحرية للمضي نحو الشمس.

كرئيس وزراء سابق، أنا لا أكتب كمحلل أو مراقب حيادي. فأنا كما غيري من أصحاب الدولة والوزراء والمسؤولين السابقين واللاحقين، حاولنا دفع عجلة الإصلاح الاقتصادي والسياسي، فاجتهدنا، فأخطأنا هنا وأصبنا هناك، ونتحمل مسؤولية التراكم الذي وصلنا إليه اليوم بما له وما عليه. أما الأهم فهو تقييم واقع الحال واستلهام الدروس والعبر والمضي قدماً. وهذا ما أسعى إليه في هذه المقالات، والله من وراء القصد.
الغد