سلطة باندورا بدون خيار

د. مهند العزة

 

بادءً ذي بدء، أعتذر عن هذه المقالة الطويلة التي سوف يتضح قِصَرُها إذا ما قورنت بالمقالة المراد مناقشتها التي وقعت في عشرات الصفحات كما سيأتي ذكره لاحقا.

كما كانت “ويكيليكس” أيقونة كشف الأسرار وما خفي من الأخبار، جاءت اليوم “وثائق باندورا” لتتصدّر عناوين الصحف وترندات وسائل التواصل الاجتماعي، بما حملته من معلومات عن ثروات عدد كبير من مشاهير العالم وقادته، ليس بالضرورة لوجود شبهات تهرّب ضريبي أو فساد في كلّ الحالات، وإنّما لكون الحديث عن ثروات الشخصيات العامة في حدّ ذاته يلبّي لفضول التعرّف على عالم تُنسَج حوله حكايات خياليّة يرتبط كثير منها بالصورة التقليديّة لأغنياء الروايات والأساطير.

كان لافتاً أسلوب تناول بعض الصحف والمواقع لما نشرته هذه الوثائق من معلومات حول مجموعة العقارات التي يمتلكها الملك عبد الله الثاني في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بقيمة إجماليّة بلغت -وفقاً لهذه الوثائق- حوالي 106 مليون دولار أمريكي. فمن حيث المبدأ ليس ثمّة ما يفاجئ في امتلاك زعيم دولة هذه العقارات التي يمتلك مثلها وأكثر منها عشرات رجال الأعمال لدينا، ليس في أمريكا وأروبا فقط، وإنّما أيضاً في تركيا والقاهرة ودبي وغيرها… وليس مفاجئاً قيمتها الماليّة الكليّة التي تضاهي كلفة قصر واحد من بعض قصور عمّان الفارهة التي تعود ملكيّتها إلى بعض كبار المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال، وهذا كلّه مشروع ولا غبار عليه طالما كان بعيداً عن أي ممارسات تشكّل خرقاً للقانون، ليظلّ اللافت حقّاً طريقة عرض الخبر في الواشنطن بوست و بي بي سي، إذّ يتجلّى للقارئ من الوهلة الأولى تقصّد الإثارة والاستثارة في حدّها الأقصى، حيث يتضح ذلك جلياً بصفة خاصّة في مقال الواشنطن بوست الذي وصل عدد كلماته إلى حوالي 51 ألف كلمة لاستعراض خبر أصله لا يتجاوز 25 كلمة وهو: “اشترى الملك عبد الله الثاني عقارات في بريطانيا وأمريكا ما بين عامي 2003 و 2019 بقيمة إجماليّة بلغت 106 مليون دولار من خلال شركات أوفشور/Offshore”، فما عساه أن يكون المغزى من تأليف سنفونيّة طويلة على هذه المازورة القصيرة؟

تقصّد عرض الموضوع في إطار من التشويق والإثارة في تقرير الواشنطن بوست تحديداً يلاحظ بجلاء بدايةً من العنوان غير البريء الذي يربط بين المعلومة المعلومة أصلاً للكثيرين والوضع الاقتصادي المتأزّم في الأردن، ثمّ من التوطئة التي تسبق كلّ فقرة تقريباً وتذكّر القارئ أن الأردن يتلقّى مساعدات عسكريّة واقتصاديّة من الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأروبيّة، لتُستَخدَم هذه المعلومة المتكررة وكأنّها منصّةً لإطلاق الصواريخ، حيث يبني عليها التقرير رسائله المتتالية.

نقل التقرير عن مسؤول أمريكي أنّ المساعدات التي تقدّمها بلاده للأردن يتم مراقبة أوجه إنفاقها وفقاً لآليات واضحة، وأنّه لم يتم رصد ما يشير إلى إساءة استخدامها البتّة، والشيء نفسه ينطبق على التمويل الذي يقدّمه الاتحاد الأروبي والأمم المتّحدة، حيث يأتي التمويل بموجب مذكرات تفاهم تفصيليّة ومؤشّرات قياس مُحكَمة ومغرقة في التفاصيل لتنفيذ مشاريع وبرامج محدّدة من حيث أهدافها ونشاطاتها وأطرها الزمنيّة، سواءً في مجال دعم التعليم أو الطاقة أو المياه أو الإدارة أو غيرها من المجالات التنمويّة.

يظهر المقال عمليّة شراء هذه العقارات خلال العقدين الماضيين من أموال الملك الخاصّة وكأنها واحد من أسباب تأزّم وتدهور الأوضاع المعيشيّةفي الأردن،فلا انهيار في الاقتصاد العالمي سنة 2008 ولا صراعات وإرهاب من كلّ حدب وصوب ولا أمواج من اللاجئين ضاعفت عدد السكّان خلال عام تقريبا.

يستطرد التقرير في الربط غير البريء بين أحداث بعينها وهذه المعلومة عن شراء العقارات، فيشير إلى سنة 2012 حينما تم خفض الدعم عن المحروقات وأنّه في السنة نفسها تم شراء واحد من العقارات محلّ الخبر، وكأنّ رفع الدعم بما يمثّله من تدبير اقتصادي طويل الأمد تقدّر قيمته الماليّة بمئات الملايين من الدنانير كان يستوجب تأجيل أي عمليّة بيع أو شراء خاصّة حتى نهاية السنة، أم ترا الكاتب أراد القول: “لو تم رصد مبلغ العقار المشترى في حينها لحلّ أزمة المحروقات لكان أفضل”، فهل هذا تحليل يحترم عقول القرّاء ومنطق يستقيم واستنتاج يركن إليه المرء؟

استمراراً في وضع الخبر في سياق يبدو أحياناً تحريضيّاً أكثر منه تشويقيّا، يزجّ المقال بالأمير حمزة ويذكّر القارئ بتصريحاته -عقب الكشف عن “قضيّة الفتنة”- الخاصّة ب”تراجع الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة…”، حيث يستخدم التقرير هذه التصريحات المرسلة -التي انكشفت غايتها وسياقها لاحقا- وكأنّها قرينة ودليل على دقّة الربط الذي يسعى إليه الكاتب بتكلّف واضح بين ما نشره من معلومات حول العقارات المشتراة وما يعانيه الأردن وغيره من دول العالم من تحدّيات فرضتها ظروف جيوسياسيّة واجتماعيّة معقّدة.

لجأ التقرير إلى وسيلة غايةً في الرخص والابتذال تنطوي على إهانة كبيرة للعشائر والعائلات الأردنية، وذلك حينما أعياه تعزيز الادعاء ب”إساءة استخدام المساعدات المقدّمة من الولايات المتّحدة والدول الأروبيّة إلى الأردن”، حيث استند إلى تصريح ممن سمّاهم “مسؤولين وخبراء بالشأن الأردني” دون ذكر أسمائهم طبعا، فأورد على لسانهم ما فحواه: “الأموال التي يتلقّاها الأردن من دول الخليج تخضع لشفافيّة أقل من تلك التي تقدّمها الولايات المتّحدة، وعادةً ما تستخدم المساعدات الخليجيّة لشراء ولاء العائلات القويّة مقابل دعمها السياسيّ”. هذه الإهانة للعشائر والعائلات الأردنيّة برمّتها وإظهارها بأنّ ولاءها يُشتَرى ويُباع؛ للأسف تغاضى عنها بعض من يصنّفون أنفسهم ب”معارضين”، فاحتفلوا بالتقرير ضاربين صفحاً عمّا طال عشائرهم وعائلاتهم من امتهان واتّهام بوطنيّتهم المتأصّلة.

يصل التقرير في رحلته المبتذلة إلى قاعها حينما يستشهد بما ذكره الراحل الملك حسين في كتابه “مهنتي كملك”؛ من أنّ أسرته اضطرت لبيع درّاجته الهوائيّة وهو طفل لتسديد إيجار المنزل الذي كانوا يسكنونه ،ليتساءل التقرير بعد ذلك مستخفّاً بعقول القرّاء: “إذن من أين جاء الملك عبد الله الثاني بأمواله الخاصّة بعد أن تم تقسيم تركة الملك الحسين على أفراد العائلة بمن فيهم الملكة نور؟”! فهل هذا الزجّ للملكة نور واستحضار قصّة الدرّاجة الهوائيّة التي أراد الحسين عليه رحمة الله من خلالها بيان ما عايشه من ظروف صعبة في طفولته؛ يخدم الهدف المعلن من التقرير والمعلومة الرئيسيّة التي يدور حولها؟ أعتقد أن هذا السرد الإيحائي والزجّ العشوائي لأحداث ومعلومات وأقوال فيما يشبه السَلَطة غير متجانسة المكوّنات ربّما يعكس صورةً نمطيّةً لدى الكاتب عن شعوب المنطقة بأنّه من السهل استثارة مشاعرها وتجييشها من خلال المتاجرة بمظلوميّاتها وإذكاء خرافة التآمر عليها.

ينتقل التقرير من الابتذال إلى العبث حينما يصف بافتعال وتكرار عدّ الغرف ودورات المياه ومرافق العقارات محلّ الخبر، خصوصاً المنزل الكائن في ولاية كاليفورنيا، فيحدّثنا عن 7 غرف نوم و 9 حمّامات وبركة سباحة ومكان للشواء، وعلى الرغم من وجود عشرات المزارع في جرش وعجلون والأغوار وطريق المطار… تفوق مساحات بعضها ومرافقها ما ذُكِر، إلّا أنّ الكاتب بدى وكأنّه يقصّ علينا حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة من إعداد الراحل طاهر أبو فاشة على وقع خلفيّة موسيقى شهرزاد بتقدمة من الفنّانة الراحلة زوزو نبيل. ما وصفه الكاتب بانبهار وتكرار، من حيث المساحة والمرافق، يعتبر أكثر من مألوف في المجتمع الأمريكي وفي الأردن وغيرها من الدول التي تنتشر فيها القصور والبيوت الريفيّة والمزارع، مع ملاحظة أن التقرير في هذه الجزئيّة لم يكن بصدد مقارنة أسعار وإنّما إظهار المساحات والمرافق ووسائل الرفاهية، فهل المستهدف بالإبهار والاستثارة محدودي الدخل مثلاً بغرض التأجيج والتهييج؟

ذهب التقرير إلى ما هو أبعد من المساحات والمرافق، حينما نقل عن أحد سكّان الحيّ في كاليفورنيا أنّه”مستاء من كون المنزل وغيره من المنازل تظلّ فارغة معظم أوقات السنة، وأنّهم حينما يأتون لا يختلطون بالسكّان المحليين ولا يذهبون للتسوّق من محلات البقالة”! فكيف يمكن تفسير هذا الربط المفتعل والمبتذل لشراء الملك عقاراً في كاليفورنيا وتأثّر المجتمع المحلّي من كونه لا يسكنه بشكل دائم وإذا جاء لا ينزل إلى الأسواق ولا يخالط الجيران؟؟؟

السؤال الجوهري هو: هل التقرير من المنظور الإعلامي الاستقصائي الذي قوام مصداقيّته التوثيق مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة التوقيت؛ يعدّ موضوعيّاً ومحايدا؟ في الواقع أنّ المعلومة الوحيدة الموثّقة التي اشتمل عليها هي: امتلاك الملك لعقارات في لندن وأمريكا بالقيمة المشار إليها من حسابه الخاصّ، ليبقى ما عدا ذلك من بهارات ومحاولات لربط هذه المعلومة المعلومة بسياق تآمري مفتعل بلغ بالكاتب حدّ تصويره وتسويقه وكأنّه أزمة حكم في الأردن؛ مجرّد تضخيم وبروباغندا إعلاميّة؛ إذا ما غلّبنا إحسان الظنّ بالكاتب وتقريره.

ملاحقة الساسة والقادة والمشاهير إعلاميّاً وإثارة البلبلة حولهم ممارسة مستصحبة لن تنتهِ، والسلطة والمال والإعلام مكونات إن لم تنضبط بمعايير الشفافيّة والموضوعيّة والمهنيّة، ستغدو سَلَطة باندورا ليس للمتلقيّ فيها خيار.