مرايا – كتب: عمركلاب – هي لحظة فارقة في السردية الاردنية , فكل عوامل النصر متوفرة استنادا الى ارث الاردنيين وتراثهم في الالتفاف حول الدولة في المفاصل الحرجة , وكل ملامح الضعف حاضرة للاسف ولنفس السبب تقريبا , بعد ان تخلت اركان الدولة عن مألوفها الوطني وسلوكها السياسي الحصيف , في الاقبال على المواطن واستباق اللحظة الحرجة بمقاربات وطنية سياسية واقتصادية تنزع فتيل العتب والغضب .
وقبل ان أدلف في السردية الداخلية , أود التنبيه الى ان المحيط الخارجي لم يكن رحيما بالاردن يوما ما , فالعلاقة مع الجار السعودي مشدودة على وتر , ومع السوري تتارجح من الدخول بالهوية الى القطيعة الدائمة ومع العراقي على حد نصل السيف اذا كانت الجبهة الشرقية هادئة وعلى حافة الوحدة اذا ما اشتعلت شرقا , ولم يكن الكيان الصهيوني يوما راضيا عن استقرار المملكة , بل ان مشروعه دوما بذر الفتنة والشقاق والتضييق , والحال مع السلطة لا يختلف كثيرا عن الحالة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت ترى في الاردن ساحة للعمل الفصائلي وقليل من العمل الفدائي ., مما يستدعي اسقاط الحالة الخارجية وظلالها على المشهدية القائمة بحكم ثبات السلوك للخارج الاردني مع عدم اسقاط ارتفاع حجم الاستجابة الداخلية بفعل عوامل وظروف متعددة ساعرضها تاليا . .
دعونا نعترف بوقار , انه ومنذ نهاية مرحلة نيسان 1989 , أخذ جلد الدولة بالسماكة حد عدم الاحساس باوجاع الناس , وأدخلت السلطة وجوها جديدة الى مضمارها السياسي , راعت فيه الجغرافيا وفقا لنتائج انتخابات ذلك العام , قبل ان تتحول الى تمثيل مسقط الرأس بدل تمثيل الجغرافيا فيما تلى , فتمثيل المحافظات اصبح تمثيلا حسب شهادة الميلاد ومسقط الرأس في المحافظات وليس حسب السكن والسكنى في تلك المحافظة , فأصبحت العاصمة هي عنوان التمثيل , بل اصبح التعبير عن المحافظات بالإسم الحركي وليس بالإسم الفعلي .
مما اسفر عن غربة في التمثيل الجغرافي واغترابا في التمثيل السياسي , ورأينا ذلك بوضوح تحت قبة البرلمان من خلال اداء وسلوك النواب القادمين من رحم المحافظات وبين ممثلي المحافظات بالاسماء الحركية , ولجأت السلطة بدل قراءة المشهدية بعمق الى سلوك استرضاء هذه العينة من النواب والى طيّهم تحت عباءة الطاعة بدل الالتفات الى مخزون الغضب المتنامي في المحافظات والذي عبر عن نفسه بالتصويت لهذه النخبة قبل ان ينتقل الى التعبير بالحراك الخشن والسقف المرتفع نتيجة لعدم الاصغاء لامانيهم .
والحال ليس بعيدا في المقاربة داخل العاصمة وتكوينها الديمغرافي المتنوع , حيث جرى استقطاب اردأ انواع الممثلين عن معظم التكوينات الديمغرافية , وجرى تهميش واقصاء اصحاب الأثر والتأثير السكاني والمكاني , فكان التمثيل حسب مسقط الرأس وليس حسب الجغرافيا السياسية , وحتى لا يذهب بعض المراقبين الى أبعد من المقصود , فإنني اعني الجغرافيا السياسية الحاضرة في صنع القرار دائما وابدا على حساب الكفاءة والنزاهة والتمثيل السياسي بمعناه المطلوب والمأمول , فلا لجأنا الى التمثيل السياسي ولا ذهبنا الى تجويد الجغرافيا بالحاق السياسة فيها لتصبح جغرافيا سياسية وليست جغرافيا مناطقية افضت الى تكريس وتنميط المشهد بالمحاصصة السياسية .
نجحت السلطة من خلال هذه التوليفة الخُلاسية في عبور العقدين الماضيين , اي عقد نهاية التسعينيات واول الالفية الجديدة , وأسندها في ذلك طفرات ناجمة عن اهوال الاقليم وفجاءاته , فأزمة الخليج الاولى اثرت الاقتصاد باموال العائدين من الكويت وانتجت حالة اقتصاد استهلاكي غريبة على المجتمع ومعه ,وانتجت اكثر حالة ازدحام هوياتي جديدة مع بعض احياء على اطراف عمان ولم يصل الى المحافظات اي اثر وكذلك الحال في عقد الالفية الثانية الأول مع وصول المال العراقي على هيئة استثمار عقاري وخدمي وايضا لم يصل المحافظات شيئا .
تضخمت العاصمة على شكل اورام , وتضخمت معها طبقة سياسية عاشت على الحافة قبل ذلك , ووجدت الطبقة السياسية الجديدة فرصتها في كشف وجهها بكل قباحة , بعد ان تزاوج السياسي مع الاقتصادي وفي غفلة او جزئية تزاوج الامني مع الاقتصادي في سنوات اربع لكن تأثير تلك السنوات متصل حتى اللحظة , على شكل تنافر وتنابز هوياتي ومناطقي وجهوي وطائفي فتحول التاريخ الى نظرية ايديولوجية وليس الى تاريخ يخضع لمنطق الجدلية التاريخية ومنهج التأريخ والتوثيق , ووجد الاردني نفسه غريبا عن هذه الحالة ولربما أحس باغترابه عن الدولة بعد ان اكلت السلطة مفهوم الدولة المتأصل في وجدانه .
كعادته في الوناسة والتعبير الحيي عن رفضه للحالة , لجأ الاردني او استلاذ بالماضي , فسادت حالة من الحنين للماضي ” نستولوجيا ” فاستحضروا الحسين ووصفي وحابس وهزاع وشرف رحمهم الله جميعا , وحظي الاحياء من تلك الحقببة بعاطفة وحضور لم يشهدوه حتى ابان جلوسهم على المقاعد الرسمية وكانت تلك رسالة شعبية غاية في التهذيب والرقي لعل عقل الدولة يلتفت الى هذا التعبير النبيل عن رفض الواقع وسلوك السلطة ولم يستجب لهذا النُبل احد , فجرى تهشيم القواعد الاجتماعية من عشائر ونقابات وتكوينات وجرى الاجتراء على كل مفاهيم الدور الحقيقي للدولة من صحة وتعليم وتشغيل , مع تباهي في الثراء الناجم عن الفساد والافساد .
جاء الربيع العربي ومعه خرج الاردنيون كغيرهم من شعوب العالم العربي , لينقلوا عتبهم على شكل غضب , ورأينا كيف كان الحراك الاردني على اختلاف تلاوينه الا فئة قليلة جدا , حريصة على الدولة لربما اكثر من حرص السلطة على الدولة , فبقي الشعار اصلاحيا بالمجمل العام , وكلما حاولت فرقة الخروج عن المألوف الوطني كان الحراك يتصدى قبل السلطة مانعا اي محاولة لكسر هيبة الدولة او اضعافها , لكن الربيع الاردني لم ينتج قادته ولم ينجح في التعبير عن ذاته بشكل فاعل , فتشتت الحراك وعناوينه ومضامينه ونجحت محاولة استثماره من تيارات منظمة اخرجته من دائرة التأثير , ونجحت السلطة كالعادة في استجلاب بعض الوجوه الى خندقها فكانوا اكثر صرامة على الحراك من السلطة نفسها .
صحيح ان كثير من مطالب الربيع الاردني جرى الاستجابة لها , لكن سرعان ما تم الارتداد عنها ليس بفعل تغير المشهد الاقليمي فقط بل بحكم عدم تأطير الحراك لنفسه على شكل احزاب او جماعات ضغط جماعي وقبل ذلك بحكم تفتته الى اسماء مناطقية وعشائرية دون عنوان وطني جامع يفتح الباب لانضواء اخرين تحت مطالبه وبرامجه .