مرايا –

‏بيتر أوبورن*‏ – (ميدل إيست مونيتور)
أدى التقدم الذي أحرزه التحالف الصهيوني الديني في الانتخابات الأخيرة إلى زيادة التوتر حول المسجد الأقصى. ويشكل بتسلئيل سموتريتش من حزب “الصهيونية الدينية” وبن غفير بطلي هذا التحالف.

ومن هنا جاء الاستفزاز الأخير المؤجج للتوترات… ‏بالنسبة للفلسطينيين، كان اقتحام بن غفير للمسجد الأقصى تتويجًا لاستراتيجية بعمر عقود تنتهجها الدولة الإسرائيلية والجماعات اليمينية، وتهدف إلى “تهويد” المدينة وتجريدها من تراثها الفلسطيني الأصلي.

* *
كان إيتمار بن غفير، السياسي الإسرائيلي اليميني المتطرف وزعيم حزب “القوة اليهودية”، قد زار باحات المسجد الأقصى مرات عدة من قبل، ولكن ليس كوزير في الحكومة الإسرائيلية.‏

كان هذا ما جعل اقتحام يوم الثلاثاء، الثالث من كانون الثاني (يناير) للأقصى من قبل رئيس الأمن الجديد في البلاد، عملًا محفوفًا بالخطر.‏

فقد أرسل إشارة مفادها بأن هناك عناصر داخل الحكومة الإسرائيلية تبدو عاكفة على تحطيم ترتيبات الوضع الراهن التاريخية التي حافظت على السلام، بطريقة أو بأخرى، لقرون عدة، مع ما ينطوي عليه ذلك من عواقب وخيمة.‏

ترتيبات الوضع الراهن هي مجموعة التفاهمات التي سمحت للأديان الثلاثة الكبرى بالحفاظ على سلام نسبي.

وتم إضفاء الطابع الرسمي عليها في معاهدة برلين، الموقعة بين الإمبراطورية العثمانية والقوى العظمى الأوروبية في العام 1878.‏

ومع سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، تولت السلالة الهاشمية الوصاية على المسجد الأقصى. والوصي الحالي هو العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني.‏

وتنص الاتفاقية على أنه يُسمح للمسلمين فقط بالصلاة في الأقصى، بينما يُسمح لغير المسلمين بزيارة الأقصى تحت إشراف “الأوقاف”، وهي صندوق إسلامي أردني فلسطيني مشترك يدير شؤون المسجد.

ويمكن لليهود، وفقًا لهذا الفهم، أداء الصلاة عند حائط البراق، أو ما يُعرف في الغرب باسم “الحائط الغربي”. وفي الوقت نفسه، تحتفظ السلطات الإسرائيلية بالسيطرة الأمنية على المسجد.‏

في الماضي، أدرك كبار السياسيين الإسرائيليين (وأجهزة الأمن الإسرائيلية) الحاجة إلى الحفاظ على هذا الوضع الراهن -بعد أن احتلت إسرائيل القدس في العام 1967، أمر وزير الدفاع آنذاك، موشيه ديان، المتسللين اليهود بالخروج من الأقصى وقام بإعادة المفاتيح إلى الأوقاف.‏

وينطبق الشيء نفسه على المؤسسة الدينية اليهودية. فقد أوضحت الحاخامية الكبرى في إسرائيل أنه لا ينبغي لليهود زيارة “جبل الهيكل” -أو ما يسميه المسلمون “الحرم الشريف”- لأن وضعه المقدس يعني أنه من غير اللائق القيام بذلك.‏
ومع ذلك، تجاهلت إسرائيل على مر السنين هذا الترتيب الدقيق وتجاوزت “الأوقاف”.

وداهمت القوات الإسرائيلية واليهود المتدينون والسياسيون اليمينيون المتطرفون المسجد مرارًا وتكرارًا، وأصبحت التوغلات منذ العام 2017 أشبه بجولات يومية منظمة.‏

الوضع الراهن في خطر‏

في تاريخ إسرائيل، رأى العديد من السياسيين الإسرائيليين أنه من المناسب تعريض هذا الوضع الراهن للخطر، وقد برز اثنان منهم في هذا الإطار بشكل خاص.‏

الأول كان أرييل شارون. في شهر أيلول (سبتمبر) 2000 (وكان ما يزال في المعارضة)، قام باقتحام باحات المسجد بصحبة ستة من أعضاء الكنيست و1000 شرطي إسرائيليين.‏

وكان الحدث صادمًا. وقد اعتبره الفلسطينيون استفزازيًا للغاية ومتجاهلاً للحساسيات المتعلقة بقدسية المسجد. وأدى ذلك إلى إشعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي أسفرت عن مصرع 3000 فلسطيني و1000 إسرائيلي. وعلى مدى ثلاث سنوات، تم تقييد الوصول إلى المسجد، للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء.‏

عندما انتُخب شارون رئيسًا للوزراء، أعاد فتح الأقصى للزوار اليهود، وكذلك المسلمين. ومنذ ذلك الحين، جرى تقويض اتفاق الوضع الراهن بشكل مطرد كما رأيتُ بنفسي عندما زرتُ المسجد الأقصى الشهر الماضي.‏

من الناحية النظرية، بموجب الاتفاق، يتمتع الأردن بالسيطرة الكاملة داخل حدود مجمع المساجد. أما عمليًا، فكانت قوات الأمن الإسرائيلية منتشرة في كل مكان، مع وجود مكتب لها داخل الباحات شمال قبة الصخرة مباشرة، وفصيلة متمركزة مقابل واجهة المسجد. وأعتقدُ أنه كان هناك حوالي 40 شرطيًا أو جنديًا داخل الأقصى.‏

كان هناك جنديان يحملان رشاشين ومجهزَين بما يبدو أنها عبوات غاز. اقتربتُ وسألتُ عما يفعلان.

“نحن هنا فقط للحماية”، أجاب أحدهما. “على وجه التحديد، نحن نحمي اليهود المتدينين. المسلمون يكونون غير سعداء عندما يدخلون”.‏
‏هل سبق لهم أن استخدموا أسلحتهم؟ “نحن لا نفعل ذلك، إلا في بعض الأحيان”، قال الجندي الذي أجاب عن جميع أسئلتي. كم عدد قوات الأمن المتواجدة في الفناء؟ “هناك حوالي 35 إلى 50 هنا اليوم”.‏

استراتيجية قديمة‏

في مكان قريب، كانت مجموعة من حوالي 20 يهوديًا متدينًا تدخل الفناء من الجنوب الغربي، تتحرك بلا يقين، وينظر أفرادها إلى قبة الصخرة.

ذهبتُ وسألتُ عما يفعلون. وأجاب شاب يدعى يشوع ذو لحية زنجبيلية: “فوقًا هناك جبل الهيكل. كان موقع معبد يهودي. نأمل بأن يكون هناك معبد آخر في يوم من الأيام”.‏

على مدى العقدين الماضيين، جرى تقويض الوضع الراهن بشكل مطرد. وتطالب الجماعات اليهودية المسماة بـ”جبل الهيكل” الآن بالوصول إلى الموقع المقدس، وتشكلُ عمليات التوغل التي تقوم بها الآن بشكل شبه يومي وتحميها الشرطة الإسرائيلية انتهاكًا صارخًا لترتيبات الوضع الراهن، وسببًا للتوتر في القدس الشرقية وخارجها على حد سواء.‏
وأدى التقدم الذي أحرزه التحالف الصهيوني الديني في الانتخابات الأخيرة إلى مزيد من التوتر.

ويشكل بتسلئيل سموتريتش من حزب “الصهيونية الدينية” وبن غفير بطلي هذا التحالف. ومن هنا جاء الاستفزاز المؤجج للتوترات يوم الثلاثاء.‏

بالنسبة للفلسطينيين، كان اقتحام بن غفير للمسجد الأقصى تتويجًا لاستراتيجية بعمر عقود تنتهجها الدولة الإسرائيلية والجماعات اليمينية، وتهدف إلى “تهويد” المدينة وتجريدها من تراثها الفلسطيني الأصلي.‏

أخبرني أحد المسؤولين من الأوقاف، الصندوق الاستئماني الذي يدير الأقصى، أن “إسرائيل تسحب السلطة من الأوقاف ببطء”. وأعطى أمثلة: “عليكَ إبلاغ السلطات الإسرائيلية إذا كنت تريد القيام بأعمال الطلاء.

في إحدى الحالات الأخيرة، ذهب مهندس إلى الجزء الشرقي من المسجد مع سبّاك لتغيير أنبوب مياه صدئ. وطلبَت منه الشرطة التوقف وطلب إذن (من السلطات الإسرائيلية). وتم اعتقال المهندس والسباك عشرات المرات.‏
‏‏

”انفجر أنبوب ماء. ولم تسمح الشرطة الإسرائيلية للوقف باستبداله على الفور. واستمر الماء في التدفق لأيام عدة. ولا تسمح الشرطة الإسرائيلية للأوقاف بوصل خراطيم الإطفاء بأنابيب المياه.

ولا يسمحون لنا بالحفر تحت الممرات. أردنا وصل قطعة صغيرة من الخشب بالدرجات لتسهيل الوصول إلى المياه. وتدخلت الشرطة. كما حظرت الشرطة الإسرائيلية استخدام الجرارات، مما أعاق أعمال الصيانة.‏

”في الوقت الحالي، نريد معالجة بعض الأحجار القديمة السائبة في بعض الممرات”. ولن تسمح لهم السلطات الإسرائيلية باستخدام الإسمنت لحل المشكلة.

وفي الوقت نفسه، قال المسؤول إن إسرائيل نفسها تواصل الحفريات الأثرية، وحاولت فتح ما لا يقل عن 20 نفقا تحت المسجد.‏

وقال لي المسؤول أيضًا: “إنهم يعتقلون حراس الأوقاف طوال الوقت؛ إذا اعترضوا على دخول المستوطنين؛ أو إذا ساروا بالقرب من المستوطنين.

لقد أطلقوا النار على حراس الأوقاف (بالرصاص المطاطي) الذين لم يفعلوا شيئًا. اثنان منهم في العين. لا يمكن أن يكون هذا عشوائيًا”.‏

”كان صديق لي يخرج من المسجد إلى الفناء خارج مبنى المسجد الجنوبي. وكان يمسك بيدي طفلَيه. أطلقوا عليه رصاصة مطاطية في صدره. لم يكن يفعل شيئًا. وتم نقله إلى المستشفى”.‏

طلبت منه أن يوضح. فأجاب: “كان الفلسطينيون يحتجون ضد الاحتلال في مكان قريب”. وقال إن بعض اليهود المتدينين الذين يدخلون الأقصى يرفعون العلم الإسرائيلي أو يغنون النشيد الوطني.

ويصلي آخرون صلوات يهودية علانية في المكان.‏

وأضاف: “كان هناك وقت يسحبهم الأمن فيه إلى الخارج. ولكن، ليس بعد الآن”.‏

حرب دينية؟‏
تسيطر القوات الإسرائيلية بشكل كامل على البوابة المغربية (باب المغاربة) التي يدخل من خلالها غير المسلمين، مما يعني أن حراس الأوقاف لا يمتلكون أي سلطة لمنع الجيش الإسرائيلي من دخول الموقع: وهذا انتهاك صارخ للوضع الراهن.‏

تعود بدايات الغارات الإسرائيلية على المسجد الأقصى إلى العام 1967، عندما احتلت القوات الإسرائيلية القسم الشرقي من المدينة، إلى جانب الضفة الغربية وقطاع غزة.‏

في الأعوام الأخيرة، اعتدت القوات الإسرائيلية على الأقصى في مناسبات عدة؛ حيث اقتحمت الشرطة قاعة الصلاة القبلية وهاجمت المصلين: وهو انتهاك خطير آخر لاتفاق الوضع الراهن.

ووفقًا لمسؤول أردني رفيع المستوى، “تتعامل إسرائيل بشكل متزايد مع العرب كمستأجِرين، سيتم طردهم في نهاية المطاف، بدلاً من أن يكونوا جيرانًا شرعيين”.‏

قبل أن أغادر، ذهبتُ إلى مكاتب الأوقاف لمقابلة الشيخ عزام الخطيب، مدير الوقف الإسلامي وشؤون الأقصى في القدس.

وأوقفني الجنود عند البوابة، ثم لوحوا لي بالعبور عندما نزل مسؤول لمقابلتي. وقال الخطيب، وهو رجل قوي البنية يرتدي بدلة داكنة: “منذ خمسمائة عام ونحن نصلي في الأقصى”.‏

وقال لي: “إسرائيل تعمل بدأب لتغيير الوضع التاريخي الراهن. إنها تمنع العمل في المسجد. هناك العديد من الحواجز الأمنية على المحيط.

وقوات الأمن الإسرائيلية منتشرة في جميع أنحاء الأقصى وفي جميع أنحاء الفناء. يمكنهم منع أي شخص يريدونه من الدخول. وهم يعتقلون المسلمين. وقد أوقفوا أكثر من 20 مشروعًا رئيسيًا”.‏

وتابع الخطيب: “إنهم يمسكون بالأقصى بقبضة من حديد”، مضيفًا: “هنا في القدس، نعتمد على وصاية الملك عبد الله. هذا المكان هو جزء لا يتجزأ من الفقه والمعتقد الإسلامي.

وهو يمثل إيمان ما يقرب من ملياري مسلم. الملك عبد الله وجميع الهاشميين هم من نسل النبي، صلى الله عليه وسلم. لن يسمحوا أبدًا لإسرائيل أو أي أحدٍ آخر بالسيطرة على المسجد”‏.

”إذا غيَّرت إسرائيل الوضع الراهن، لا سمح الله، فسوف يؤدي ذلك إلى نشوب حرب دينية تمتد إلى ما هو أبعد من المسجد الأقصى”.‏

*‏بيتر أوبورن Peter Oborne: صحفي فاز بجائزة أفضل تعليق/ تدوين في العام 2017 وحصل على لقب أفضل صحفي مستقل في العام 2016 في حفل توزيع جوائز الإعلام عبر الإنترنت عن المقالات التي كتبها لموقع “ميدل إيست آي” Middle East Eye.

كما حصل على جائزة أفضل كاتب عمود في جوائز الصحافة البريطانية للعام 2013. استقال من منصب كبير كتاب العمود السياسي في صحيفة “ديلي تلغراف” في العام 2015.

تشمل كتبه “انتصار الطبقة السياسية”، و”صعود الكذب السياسي”، و”لماذا الغرب مخطئ بشأن إيران نووية”.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Ben-Gvir provocative storming shows Israel is seizing control of Al-Aqsa