– عمر كلاب
لم يتحرك العقل الامني – السياسي , بما يتطليه الواقع الاجتماعي, الذي كشفه -بما يشبه الصدمة-, الاستطلاع الاخير الذي اجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية, خصوصا فيما اسماه رئيس المركز الدكتور زيد عيادات, “لغز الثلثين”, في اشارة ذكية لعدم اهتمام ثلثي الاردنيين حسب العينة الواسعة, لاي مشروع سياسي او حركة اقليمية تقوم بها الدولة واجهزتها الرئيسة, وعدم الاهتمام نابع من عدم الدراية او المعرفة بالمجريات, وهذا مؤشر يستوجب العمل السريع والدؤوب, او ” عدم النوم” كا قال سياسي رفض كشف اسمه.
نتائج استطلاع الرأي على المستوى السياسي, وفي سياق الثقة بالحكومة ليست صادمة, حتى لرئيس الحكومة نفسه, فقد نقلت مصادر مقربة من رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة, إقراره بأن النتائج في السياقات المتوقعة, ولم يامل غير ذلك, ليس لعجز في استجابته وادارته للمشهد الحكومي, لكنها تعبير حيوي عن مزاج سيئ يحوم داخل الجغرافيا الاردنية, لكن العقل الاستراتيجي لم يقم حتى اللحظة بقراءة اسباب هذا الحوّام الاسود الذي يجوب البلاد طولا وعرضا, وهل تغذيته تتم بادوات داخلية ام خارجية, ام بالاثنين معا؟
الملفت, ان الشارع الاردني, بتلويناته السياسية والشعبية, استشعر هذا الخطر, بدليل انه للمرة الاولى وحسب الاستطلاع, يعتقد الاردنيون أن تهديد الامن الاجتماعي له اولوية على محاربة الواسطة والمحسوبية, بوصف الاخيرة ابرز المشكلات غير الاقتصادية التي تواجه الاردن, لكن قادة المشهد العام اليوم في دوائر صنع القرار, يتحدثون عنه بوصفه اختراع شعبي, وليس واقعا يجب مجابهته, فما زال العقل الطبقي الحاكم, يعتقد ان المعضلة الاقتصادية هي الوجع الاساس, ولا يلتفتون الى الاوجاع القاتلة الاخرى, من تراجع الثقة في كل التكوينات السياسية الرسمية والحزبية والقضائية وتكوينات المجتمع المدني من نقابات مهنية وعمالية ورجال دين وعلماء.
مسلسل تراجع الثقة يصل الى الاعلام ومجلس النواب, ومن هناك تأتي المشكلة الابرز, التي تستدعي عدم النوم كما قال مصدرنا, فأي تشريع قادم سيحمل وزر تراجع الثقة بالنواب, ولن تكون لدى الدولة وسيلة اعلامية, قادرة على حمل رسالة الدولة ومؤسساتها, مما يفتح باب الاسئلة عن جدوى دوائر الاتصال والاعلام في الديوان الملكي وفي المؤسسات الحكومية والناطق الرسمي باسم الحكومة, طالما ان الشارع لا يتابعهم ولا يعرف نشاط رجال الدولة وحركتهم نحو تحسين بيئته الحياتية.
صحيح ان الاردنيين, ينظرون بتفاؤل لما اسماه الاستطلاع بتحالف الشام, وراضون عن اتفاقية نقل الغاز الى لبنان, لكن للاسف فالعارفون فقط هم الواثقون والمتفائلون, فيما بقي لغز الثلثين قائما, فاقل من ثلث الاردنيين سمعوا او عرفوا حتى عن التعاوان المشترك بين مصر والعراق والاردن, واقل من النصف سمعوا باتفاقية نقل الغاز والكهرباء, فيما سمع ثلث الاردنيين فقط عن ابرز مشروع سياسي للدولة الاردنية في مئويتها الثانية, واعني اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية, فأين الدولة واجهزتها عن هذا الفراغ الذي يمكن ان يملأه اي طرف داخلي موتور او مأجور, او خارجي لا يضمر للاردن ودا وهم كثيرون.
حالة السوداوية التي تجتاح المجتمع الاردني, ليست كلها لاسباب اقتصادية, كا يعتقد العقل الامني السياسي, بل ثمة ما يريب داخل المجتمع, فمثلا نجحت الحكومة في فتح القطاعات الاقتصادية كاملة منذ اربعة اشهر, مما يعني بداية انفراجة حياتية ومعيشية, لكنها لم تظهر في ارقام الاستطلاعات, ليس لعيب في الاستطلاع, بل لأن الاجابات كانت هكذا, فالغالبية العظمى من الاردنيين لا تثق بأغلبة الناس في الاردن, اي ان الثقة المجتمعية: استمرار لفقدان الثقة بين الاردنيين, وهذه خلاصة مكتوبة باللون الاحمر في الاستطلاع, واظنها رسالة مقصودة لمن يلتقط.
ما يجري على القاطع الرسمي, يقابله اندياح على قاطع من اسميناهم النخبة او طبقة الكريما, او قادة الرأي, فحجم الغرائزية لدى اشباه المعارضين واشباه السياسيين الذين يتصدرون المشهد, جعلتهم ادوات بائسة, للمرضعة السياسية او المالية من دول الاقليم والسفارات, او الى نكاياتهم على حساب الوعي, بحيث التفتوا الى قضية شائنة تتعلق بالثابت الكريم والاساس في مجتمعنا, اعني الاسرة وعدم ادخال الاسر والزوجات في النكاية السياسة, ونسوا حجم انعدام الثقة القاتل في المجتمع, صحيح ان الدولة باجهزتها مجتمعة, ساهمت في انتاج مثل هذه الظاهر البائسة, سواء في المعارضة او الحكم, لكن ذلك لا يعفي اصحاب الرأي من الانجرار نحو الغرائزية وانتاج ظواهر شعبية هلامية, او التهكم على ارقام السعادة التي تكشف عوارا مجتمعيا اقرب الى الانفصام, لكنها واقع بحكم انعدام الثقة.
تظهير الاستطلاع يكشف اننا مجتمع يعاني من امراض سياسية واجتماعية, تمت رعايتها من العقل الامني والسياسي, الذي لم يقدم حتى اللحظة مقاربة او تقدير موقف لما يجري, بحيث تشكلت بين الدولة ورأسها, وبين المجتمع, طبقة بلاستيكية, تمنع نفاذ الاراء والرؤى بالاتجاهين, وأول الحلول, ازالة هذه الطبقة التي رعت مصالحها ولم ترع مصالح الدولة والنظام, وثانيهما المسارعة لانتاج طبقة حكم جديدة, قادرة على تقدير عمق الازمة, وقادرة بالتزامن والتوازي على اجتراح حلول لها, فلغز الثلثين يعني ببساطة اننا مجتمع ذاهب الى حتفه بقدميه كما يقول استاذ علم اجتماع صامت, فالفراغ يمكن ان يتم تعبئته من اي طيف او لون سياسي او ارهابي او مخدراتي.